العلم.. حبٌّ وإتقان

ت + ت - الحجم الطبيعي

استوقفتني هاتان الكلمتان اللتان اتخذَتهما إمارة عجمان شعارا لاحتفالها هذا العام بيوم العلم، وهو حدث تحرص عليه حرص صاحب السمو الشيخ حميد بن راشد النعيمي على تأكيد أن العلم هو القاطرة الوحيدة للنهوض بالوطن، وأن ترسيخ قيمته بين الناس كافة هي المهمة السامية التي يجب أن يضطلع بها كل غيور على حاضر بلاده ومستقبلها، لذا بات نهج السبيل العلمي فرضا على كل أبناء الوطن، كيف لا والعلماء ورثة الأنبياء.

والحق أن هذا الشعار هو أصدق وصف للعلاقة بين العلم وراغبي التعلم، فالعلم حب.. لأن في تحصيله مشقة ونصبا وسهرا وبذلا من الوقت والمال والجهد، ولا يمكن للمتعلم أن يتحمل ذلك دون محبة. ورغم أن الإقبال على العلم يأخذ من وقتك وجهدك، إلا أن محبي العلم يتمنون أن يطول بهم المقام في رحاب ما يتعلمونه، وهل هناك من يريد ترك محبوبه؟ ألم يقل الرسول الكريم في حديثه الشريف: ((اثنان لا يشبعان؛ طالب علم، وطالب مال)). ومتى كان المحب يزهد في ما أحب وهو معه "من المهد إلى اللحد"؟

العلم حب.. لأن حياة العلماء أساسها البذل دون انتظار عطاء، ولم يحك لنا التاريخ يوما أن العلماء كانوا أغنياء بالمعنى المادي، إلا أن ما بذلوه في الأرض من خير، وما حمله لهم الناس من تقدير، هو الثراء الحقيقي في حياتهم، ويظل خيرهم ممتدا بعد مماتهم. ألم يخبرنا الرسول الكريم أنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.. منها: "علم ينتفع به"؟ فحياتهم تمد في حياة كل من تلقى الخير والمعرفة على أيديهم.

وإذا كان الشاعر قد قال: "بالعلم والمال يبني الناس ملكهم"، إلا أن الواقع يؤكد أنه بالعلم قبل المال يبني الناس ملكهم؛ لأن الفكرة ابتداء هي أصل الحضارة، كما أن العلم قد يعوض العوز الاقتصادي، ويعظم من الموارد القليلة ويرشدها ويعلي قيمتها، والمال دون علم مفسدة لا رجاء فيه ولا فائدة منه.

إن فتح أبواب العلم وتعظيمها، هو من أكبر عوامل غلق أبواب الجهل والخزعبلات؛ فعندما يغيب نور العلم عن دولة، تشيع فيها روح الجهل والتعصب، وهو الباب الواسع لسقوط الحضارات. وقديما قال سقراط إن: "العلم تواكبه الفضيلة"، وهو ما يؤكد أن أمّة تقدر العلم، وتكرم حملته وكل من ساهم بوضع لبنة في صرحه، هي أمّة عرفت طريقها، ولا خوف على حاضرها، والأمل يحدو مستقبلها.

إن قيمة الثروة البشرية لا تُقدّر بعدد السكان وحسب، بل بمدى فاعليتهم؛ هب أن لديك مئات الملايين من البشر، ولكنهم غثاء لا أثر لهم ولا نفع من وجودهم.. ولكن العلم يزيد من فاعلية الفرد، ويجعل الواحد منهم بألف، وهؤلاء هم صفوة الناس ونخبتهم، وهذه هي القيم الحقيقية للثروة البشرية.

لذا فإن صلاح أي نظام تعليمي لن يكون ببنية تحتية ومختبرات وحسب، دون غرس قيمة حب العلم بين شبابنا، ولن يكون ذلك إلا عندما يرون تقدير العلماء وأثر عطاءاتهم في الحياة؛ ليتخذوا منهم قدوة ومثلا أعلى. وهو ما يشهد عليه يوم العلم الذي هو رمز لتقدير كل صاحب فكر شارك في بناء وطنه والإنسانية كافة، فالعلم لا وطن له، وبخيره ينعم الإنسان، دون النظر إلى جنسه أو دينه أو عرقه.

جاء فتى لأرسطو يطلب منه أن يعلّمه، فأخذه أرسطو إلى النهر وغطس رأسه فيه، وبعد أن أخرجه قال له: كدت أن تقتلني! فقال له أرسطو: ماذا كنت تتمنى ورأسك في النهر؟ قال: كنت أحلم بنفس هواء. فقال: إن كان حبك للعلم كحبك للهواء فاتبعني وسأعلمك.

وهنا أؤكد أننا لا يجب أن نلقي بتلك المهمة على الحكومة والمؤسسات الرسمية وحدهما، وكأننا طرف خارج المعادلة؛ لأن محبة العلم والبحث عنه تبدأ من المنزل عبر القدوة؛ فكيف يُقبل الفتى على المعرفة ووالداه لا يطالبانه إلا بتحصيل أكبر قدر من العلامات! ولم يسألاه يوما عن فكرة جديدة قالها أو مشروع علمي ابتكره! وقليل ما هم الذين يديرون حوارا بينهم وبين أبنائهم حول دراستهم، إلا بمطالبتهم بتحصيل العلامات لا تحصيل العلم.

كما أن دور الإعلام يكمل الدائرة. وهنا أود أن يشاهد أبناؤنا وكل عربي، ذلك الفيلم الذي قدمه الغرب لأبنائه بعنوان: "ألف وواحد اختراع ومكتبة الأسرار"؛ يحكي سير العلماء عبر التاريخ لطلبة المدارس. تبدأ أحداثه حين تكلف المعلمة كل مجموعة بجمع معلومات حول حقب تاريخية مختلفة والأثر الذي تركته على العصر الحديث، فتكلف الأولى بالبحث في العصر الإغريقي، وأخرى في الروماني، ثم يأتي دور المجموعة الثالثة لتقول لهم: مجموعتكم أكثر تحديا؛ لأنها سوف تبحث في العصور الوسطى، وهي ما يسميها البعض العصور المظلمة.

فيدخل الطلبة إلى المكتبة وهم محبطون، ليجدوا مسؤول المكتبة ويطلبوا منه مساعدتهم في ما تم تكليفهم به، قائلين: نريد معلومات توضح علاقة العصور المظلمة بالعصر الحديث، وهم يرددون: نعلم أن الموضوع غير مهم وأن الإغريق والرومان قد اخترعوا كل شيء. فيناديهم قائلا: وهل أنتم متأكدون من ذلك؟ ثم يقول: اتبعوني إلى الطابق الأعلى.

 فيتساءل أحدهم: إلى أين نحن ذاهبون؟ فيرد: من الظلام إلى النور، من المحيط إلى اليابسة، ويخرج لهم كتاب علم العالم.. ليخرج من الكتاب نور يتحول إلى شخصيات، أولها رجل مهيب، يقول لهم: أهلا بكم في العصور المظلمة وهي العصور الذهبية، فيسألونه: من أنت؟

يخبرهم: "أنا الجزري" مخترع المحركات، ويوضح أن الظلام مسألة نسبية، وإذا كان الظلام قد حل في جزء من الحضارة الإنسانية، فقد تم في تلك الفترة أعظم الاختراعات والاكتشافات، فيتساءل الطلاب عن تلك الحضارة، ليقول لهم: الحضارة العربية الإسلامية، لتبدأ شخصيات تخرج من الكتاب، منها: ابن الهيثم مخترع الكاميرا، ويشرح كيف توصّل إلى ذلك عبر الثقب في الغرفة المظلمة، يليه عباس بن فرناس أول طيار، ثم أبو القاسم الظهراوي أبو العمليات الجراحية الذي استخدم أحشاء القطط في خياطة الجروح الداخلية، وهو ما زال يستخدم حتى الآن، وغيرها من أدوات الجراحة...

وغير ذلك من المخترعات التي يوضح الفيلم أنها نقلت إلى أوروبا وبددت ظلمتهم.

إنني أدعو كل أبنائنا لمشاهدة هذا الفيلم، وأطالب المدارس بعرضه ليرى أبناؤنا كيف ينظر الغرب إلى علمائنا ويتذكرون مناقبهم، في الوقت الذي نسيهم أبناء جلدتهم.

إن الاحتفال بالعلم والاحتفاء بأصحابه هو مناسبة لشحذ الهمم وتشمير السواعد؛ لنمضي قدما في استكمال البناء ونحن نعرف الطريق.

Email