عشر دقائق مع أندريا بوتشيلي

ت + ت - الحجم الطبيعي

أتحدث كثيراً في الفترة الأخيرة مع أصحابي عن بعض الظواهر والمسلكيات اللاأخلاقية في الإمارات، وأنا هنا لا أعني الاختلاسات المالية أو زنا المحارم أو الخيانات الزوجية أو الكثير الكثير مما لا أعرف وتعرفون.

ما يجري في بالي شيء آخر، يجعلني أتضايق كثيراً في بعض الأحيان، وتملؤني رغبة في أن أسافر خارجاً بلا عودة.. أنا أعتقد أن مشكلتنا في هذا البلد أننا لم نعد نأخذ الأخلاق بالجدية الكافية، بالتحديد أشياء مثل البساطة في المضمون، الصدق، شيء من النظرة المثالية للأمور، مراعاة الآخرين، أن نضع أنفسنا في مكان الآخرين ...الخ.

تذكرت هذه المعاني وأنا أتصفح طرفا من سيرة حياة المغني الإيطالي أندريا بوتشيلي، الذي ولد بنظر ضعيف ثم ما لبث أن فقد بصره وهو مراهق. يحكي بوتشيلي أنه أثناء دراسته للقانون في باريس، كان يعتمد على فتاة تقرأ له المقررات الدراسية، ثم تركته الفتاة لما تخرجت وبدأت حياتها الوظيفية. وقعت أم بوتشيلي في حيرة، فقد كانت الامتحانات تقترب من ناحية، وكان إيجاد متطوع ماهر وأمين أخلاقياً ومتقبل لشخصية ابنها صعبة.

لكن الله رحيم، وتهطل رحمته ورأفته على الجميع في مصادفات لطيفة ومفاجئة.. كان إيتورو مديراً لمؤسسة مصرفية إيطالية كبرى، وكان الجميع متفقين على الإعجاب بمناقبه الأخلاقية والفكرية، وكان مختلفاً عن محيطه الاجتماعي بفردانيته واعتزازه بذلك الاختلاف. تقاعد إيتورو باكراً في خطوة فاجأت من يعرفه، وعاد لقريته المستلقية بهدوء على سهول توسكانيا الذهبية وسط إيطاليا، هنا لم تجد أم أندريا بوتشيلي حلاً سوى التوجه إلى إيتورو وطلب المساعدة، ولم يتردد إيتورو لحظة، وسافر فوراً لباريس حيث أندريا بوتشيلي.

هناك علم إيتورو أندريا أشياء كثيرة، من أهمها كما يذكر بوتشيلي في سيرته الذاتية: "يتطلب فعل الخير والشر جهداً عظيماً، لكن فعل الخير أصعب وأكثر مشقة، في النهاية فإن فعل الخير والشر في يد الجميع وبالذات الأقوياء، لكن أولئك الذين يقومون بالخير أقوى، حتى وإن لم يعرفوا أو ينتشر صيتهم، الإنسانية تتقدم على أكتاف هؤلاء". يقول بوتشيلي إنه لم ينس قط هذه الكلمات.

تحدثت سابقاً عن الفساد الأخلاقي الذي ينتجه انتشار قيم الكذب والتعلق بالمظهريات والأنانية والرغبة في إشباع شهواتنا بسرعة. كل هذه المظاهر هي تجسيد لقيم "التسليع"، حيث يتم اعتبار الإنسان وكل ما يتعلق به من أخلاقيات وروحانيات، سلعة تعامل على أنها شيء قابل للاستهلاك، لها تاريخ صلاحية معين وترمى في مكبات النفاية متى ما أردنا، أو غيرها من القيم الاستهلاكية التي غزت الإمارات، وأصبحت في أحيان كثيرة البوصلة الأخلاقية الموجهة لتصرفاتنا.

علينا مساءلة أنفسنا إن كانت هناك أزمة في القيم مشتركة تجمع بين الإماراتيين، أو إن كانت هويتنا وثقافتنا المحلية التي نستمد منها أخلاقنا، قوية بما يكفي لهضم تبعات الانفتاح الاقتصادي والبشري الذي تعيشه الدولة.. علينا أن نواجه لحظة الحقيقة تلك، التي تعرينا من كافة الأقنعة الدعائية التي نلبسها، حتى نرى ما حصل لنا في السنوات الأخيرة، وكيف نستطيع الخروج من هذه السلبيات، وذلك كله حتى لا يصبح فعل الشر أسهل علينا من الخير.. وأقرؤوا قصة حياة أندريا بوتشيلي إن أردتم التأكد.

 

Email