فترة ما بعد نجاح حركات التغيير

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهدت وتشهد البلدان العربية التي يمر عليها ربيع التغيير، مخاضات عسيرةً، منها ما زال في تلك المرحلة وحتى إشعار آخر. لا عجب في ذلك، فحركات التغيير تمتاز بحالة فريدة من نوعها، يمكن تشبيهها باليُتم.

هنالك خلل فاضح في التوجيه والتحكم، يصل لدرجة قطع الرأس؛ باتت حركات التغيير أجساماً تتحرك بلا رؤوس. فترة ما بعد نجاح التغيير تمتاز بالانشغال في إزالة ومحو آثار العهود أو الأنظمة السابقة. آثار تدخل في صميم البنية التحتية، وأخرى تمتد إلى الحالة الثقافية والفكرية السائدة، التي كانت الأنظمة تحاول توطيدها بشتى الأشكال.

لم تزل بقايا العهود السابقة تظهر بين الفينة والأخرى. منها ما هو خفي وهادئ وسلمي، ومنها ما يريد العودة بالقوة والعنف والاحتكام للسلاح.

فرص النجاح أمام أنصار الأنظمة البائدة، تبدو ضحلة وتضمحل بمرور الزمن. لكن الوضع لا يزال غير مستقر، ما يجعل عودة تلك الأنظمة بشكل أو بآخر لم تزل واردة. من أجل ذلك يدعو أنصار حركات التغيير "الناجحة"، إلى الاستمرار في الحشود والمسيرات الضخمة، للتأكيد على اتباع المسير الأصح في الثورة.

بشكل عام، الأوضاع في الدول العربية "المتحررة" من الأنظمة السابقة، تدعو إلى إعادة الحسابات. ذلك بدءاً بالعراق، فيما لو اعتُبر العراق جزءاً من حركات الربيع العربي الحديثة. الأوضاع في تونس لم تزل تدعو إلى الحذر، بسبب تسلل أو بقاء رجالات العهد القديم، في سلطة ما بعد نجاح حركة التغيير الشعبية العارمة. الوضعان الليبي والمصري أكثر إثارةً للجدل. وفي ليبيا هنالك حالة من عدم الاستقرار، تبدأ بالتنافر والاشتباك بين عناصر القيادة الجديدة، وتمتد إلى فشل جهود تحقيق المصالحة بين مختلف القوى السياسية، بما فيها مع بقايا أنصار العهد السابق.

يُتوقع نجاح حركة التغيير في سوريا بقيادة أركان المعارضة الحالية. يعود السبب في النجاح إلى استمرار تنامي الثورة الشعبية في الداخل، إلى جانب الدعم الدولي المتنامي المؤيد للثورة. طريقة التغيير في سوريا تميل إلى شق الصفوف بين فئات الشعب السوري، بصورة تؤهلها لكي تكون حضناً لصراعات وقلاقل وفتن تمتد حتى إشعار آخر.

الوضع في اليمن يميل إلى حالة من عدم الاستقرار المزمن، والتي تؤدي إلى تفاقم الأوضاع الداخلية، أمنياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً؛ حال يؤدي بالبعض إلى التندم والتحسر على أيام النظام المطاح به.

الوضع العام في البلدان العربية يذهب حثيثاً في اتجاه "أنموذج الصوملة"، بشكل جزئي أو جماعي عام؛ تلقائياً أو مبرمجاً من مصادر متحكمة. هذه نتيجة حتمية لحركات تفتقر إلى الرؤوس والقيادات الواعية المتمرسة في القيادة؛ قيادة ديمقراطية حقيقية لأعداد كبيرة من البشر التواقة لقطف ثمار الثورات، كل على طريقته الخاصة.

التدخل الخارجي عامل مستتر وظاهر، قد يضمر الخير أو الشر للشعوب المتحررة، ينزع نحو السيطرة لصالحه ما أمكن على مجريات الأحداث بعد النجاحات المتحققة. القوى الخارجية تريد أسواقاً ومواطئ أقدام في كافة الاتجاهات المتاحة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعسكرياً.

منطقة الشرق الأوسط معروفة منذ القدم، بأنها تحتوي فراغات كبيرةً يمكن ملؤها من جانب القوى الدولية، القريبة المجاورة والبعيدة الدولية. لا توجد لدى الشعوب العربية المتحررة بنية تحتية رصينة وقوية ومتماسكة، تصلح للبناء عليها نحو المستقبل. مطلوب من الأنظمة الجديدة (هذا ما تراه)، الاستعانة والاستقواء بالخارج للسيطرة على الأوضاع الداخلية وحل المشاكل المتفاقمة.

من يعرف؟! ربما تكون هذه نتيجة طبيعية لتغيير جاء فجأة، وحقق سلسلة من النجاحات لم يكن أحد في الأمس القريب، يحلم أو يتوقع حدوثها هكذا.

الأوضاع تقف عند مفترق طرق، أحد هذه الطرق يسير نحو الازدهار وآخر متشائم، وثمة آخر بين هذا وذاك.. ما على المراقب إلا أن ينتظر ويأمل بقدوم الخير والازدهار، وتجنب الويلات والكوارث والأهوال.

Email