"كل شيء ليس على ما يرام في الجمهورية الشعبية"، ذلك ما يذيعه مراقبو أوضاع الصين في جميع أنحاء العالم. ويبدو أنهم يملكون وفرة من الأدلة، فقبل ستة أشهر من مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الثامن عشر، الذي سيشهد منعطفاً حاسماً في القيادة، تعيش البلاد زلزالاً سياسياً.
لقد أقيل بو زيلاي، وهو أحد أبرز قادة الصين وعضو في المكتب السياسي وابن أحد الآباء المؤسسين للصين الحديثة، من منصب سكرتير الحزب في مدينة تشونغكينغ. والظروف الفعلية التي أدت إلى سقوط بو، سواء كانت نتيجة للصراع على السلطة أو لسلوك غير قانوني، تلفها السرية، في حين يبقى مصيره النهائي غير مؤكد، فهو حتى الآن يحتفظ بعضويته في المكتب السياسي.
ومع ذلك، فإن التكهن، في هذه المرحلة، بشأن سقوط بو أو مستقبله السياسي، يعد أقل إنتاجية من فهم القوتين الأيديولوجيتين اللتين تشكلان السياق السياسي، الذي قد تتحول فيه حادثة بو إلى عاصفة. وحتى الآن، فإن أياً من القوتين لم تحظ بالهيمنة. ولكن إذا كان لا بد لإحداهما أن تحتل مركز الصدارة في السياسة الصينية، فإن العواقب بالنسبة للصين والعالم ستكون كارثية.
لقد أفزعت الإنجازات الهائلة التي حققتها الصين منذ أطلق دنغ شياوبينغ برنامجه الإصلاحي، قوتين أيديولوجيتين متطرفتين. وتتألف إحدى القوتين من اليساريين الذين يعتقدون أن الصين قد ضلت طريقها الاشتراكي في سعيها المتهور وراء اقتصاديات السوق، ويريدون لها أن تعود إلى ماضيها المتمثل في اقتصاد مملوك للدولة وحكم لينيني عقائدي. أما القوة الأخرى فتتألف من الليبراليين، الذين لا يستطيعون تقبل حقيقة أن الصين تحقق نجاحاً في غياب انتخابات متعددة الأحزاب وقانون الحقوق.
ويبدو أن الضجة التي يحدثونها تعمل، في هذه اللحظة، على صرف انتباهنا عن التقدم الاستثنائي الذي حققته الصين خلال العقود الثلاثة الماضية، وعن توافق الآراء الأساسي الذي جعله ممكناً.
ويتماشى اليساريون مع مشاعر الجمهور الصيني في رغبته في تحقيق الاستقرار السياسي والمساواة. ويظهر عدد كبير من استطلاعات الرأي، أن الحزب الشيوعي يتمتع بمستوى عال من الدعم من جانب الشعب الصيني لأدائه الرائع، وقد حظي حكمه القائم على أساس الجدارة بقدر كبير من الإعجاب. وخلال الاحتجاجات التي شهدتها قرية ووكان، كانت أعلى لافتة مرفوعة من قبل القرويين المحتجين تقول: "يعيش الحزب الشيوعي الصيني"!
ومع ذلك، فإن حبلاً ساماً من الشعبوية يغزو فكر اليساريين، فهم يبدون غافلين تماماً عن الإنجازات غير المسبوقة التي نجمت عن إصلاحات السوق التي شهدتها العقود الأخيرة، ويحملون اقتصاد السوق نفسه مسؤولية مشتقات التنمية الاقتصادية السريعة، مثل الفساد والفجوة في الثروات.
وهم لا يهتمون كثيراً لحقيقة أنه حتى الأشخاص الأسوأ حالا في الصين اليوم، هم أفضل حالا مما كانوا عليه قبل جيل واحد. وقد فسر اليساريون خطأ سياسات بو في تشونغكينغ على أنها تمثل عودة بالجملة إلى الماضي اللينيني. وقد أغضبهم سقوطه الظاهري، لأنهم اعتبروه خيانة من جانب الحزب.
وليس الليبراليون أقل إثارة للشفقة. فمنذ سقوط الاتحاد السوفييتي وهم يدافعون عن فكرة أنه لا يمكن لدولة ما أن تنجح، دون انتخابات متعددة الأحزاب وقانون لحقوق الإنسان. وتمر الأعوام وهم يتوقعون انهياراً وشيكاً للصين، وتمر الأعوام والصين تواصل انتشال مئات الملايين من الناس من براثن الفقر، حيث يقفز اقتصادها إلى ثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم، ويعيش شعبها في رخاء لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد.
ويتفق الاقتصاديون الموجودون في صفوف الليبراليين، مع واقع أن اقتصاديات السوق تشكل الأساس الكامن وراء نجاح الصين. ومع ذلك، فإن وضعهم الاقتصادي اختطف من قبل المنظرين السياسيين، الذين يصرون على ربط اقتصاد السوق بالنظام السياسي المتمثل في الديمقراطية الليبرالية. إنهم يعيشون في فراغ ايديولوجي لا يمكن للسوق أن يعمل في نطاقه دون تصويت، وهم غافلون تماما عن حقيقة أن اقتصاد السوق الأكثر حيوية، ينمو على قدم وساق في ظل حكم الحزب الواحد.
ويحتفي هؤلاء الليبراليون قبل الأوان، بإقصاء بو باعتباره تمهيدا لثورة ديمقراطية ليبرالية، أو على الأقل لـ"تطور سلمي" وصفه جون فوستر دالاس للاتحاد السوفييتي السابق. ومن خلال احتفالهم البهيج بإقصاء بو، فإنهم يسعون، فيما يبدو، لتحويل رغبتهم إلى واقع ملموس.
وفي هذا الموسم السياسي الحافل، ساهمت دراما سياسية غير متوقعة في تأجيج مواجهة ايديولوجية بين نهايتين متطرفتين للطيف السياسي الصيني، هل سيتم السماح لهذه العاصفة بتعطيل مسار الصين؟
في حال حدث ذلك، فإنه سيسفر عن عواقب وخيمة، ومنها أن ثورة ثقافية أخرى قد تندلع بالفعل، متسببة في فوضى كارثية أسوأ من تلك التي حلت بروسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي. وفي مثل هذا السيناريو، فإن الصين، بدلا من أن تكون محركاً للنمو في العالم، ستتحول إلى أكبر أعبائه.
ولكن يمكن لهذا ألا يحدث، فالمحادثات بشأن انهيار سياسي وشيك في بكين تمثل، على الأرجح، أمراً مبالغاً فيه إلى حد كبير. والتيارات الهادئة والثابتة للاتجاه السائد في الصين، فضلاً عن الوعي العام الذي يميز قيادتها، سيستمران بصورة شبه مؤكدة في توجيه الصين، في طريقها الذي يتسم بالواقعية والاعتدال.