تهديد الهوية من أين يأتي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

دون الانتقاص أو التقليل من البرامج التي تنظمها الجهات المختصة في الدولة للمحافظة على الهوية الوطنية، مثل برنامج "وطني" وبرنامج "السنع" وغيرهما، نعتقد أن كل ما يبذل في هذا المجال ما زال يلامس السطح ولا ينفذ إلى العمق.

واضح أن موضوع الهوية الوطنية محل جدل بين أطراف كثيرة، بعضها معنيٌّ به من باب المسؤولية الوطنية والغيرة على هوية الوطن التي نراها تذوب وتضمحل يوما بعد يوم، بفعل عوامل كثيرة أصبحت معروفة لكثرة ما كتب عنها الكُتّاب وتحدث عنها المتحدثون في وسائل الإعلام المختلفة، وعبر الندوات والملتقيات التي أقيمت لبحث هذه القضية، إلى الدرجة التي أشبعت معها بحثا ودراسة وتمحيصا حدَّ التخمة.

وبعض هذه الأطراف معنيٌّ بموضوع الهوية الوطنية من باب المسؤولية الوظيفية المنوطة به، ونعني بهذه الأطراف بعض الوزارات الاتحادية والهيئات الحكومية المحلية التي تقع هذه القضية في دائرة اختصاصها، مثل وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، والهيئات والدوائر الثقافية المحلية المتعددة في إمارات الدولة، وإن كان هذا لا يعني أنها تقوم بهذه المهمة بمعزل عن المسؤولية الوطنية التي تشعر بها وتتحملها متضامنة مع الأطراف الأخرى.

الهوية الوطنية التي تعنينا ونعنيها هنا، ليست الشكل الخارجي المتمثل في الملبس والطراز المعماري وكل ما يتعلق بالمظهر. وهي ليست الأكلات التي يختص بها بعض المطاعم الشعبية، وتقدَّم لنا على شكل فواصل بين فقرات البرامج في القنوات المحلية. وهي ليست الرقصات المستمدة من الفلكلور الشعبي، التي نشاهدها في الأعراس ونشارك بها في المهرجانات الثقافية التي نقيمها خارج الدولة للتعريف بتراثنا.

وهي ليست السلوكيات التي نحاول ترسيخها في نفوس أبنائنا للمحافظة على نهج الآباء والأجداد، وإحياء النمط الاجتماعي الذي كان سائدا قبل عهد الطفرة المادية التي جعلت من الهوية الوطنية قضية مطروحة على بساط البحث، ومشكلة يعتقد البعض أن حلها من الصعوبة بمكان يرقى بها إلى درجة الأزمة.

صحيح أن كل هذه الأشياء مهمة وتلعب دورا رئيسا في ترسيخ الهوية الوطنية والمحافظة عليها، في مجتمع يعاني من تركيبة سكانية مختلة، وتنوع في الجنسيات يلقي بظلاله على مظاهر الحياة المختلفة، وينشر ثقافات متعددة يمكن لكل واحدة منها أن تطغى على هوية البلد الأصلية، بحكم الأكثرية التي يمثلها أصحاب هذه الثقافات القادمة من شتى بقاع الأرض، والأقلية المتمثلة في أهل البلد الذين يجدون صعوبة في المحافظة على هويتهم، وسط هذا الخليط من الجنسيات والثقافات التي يصعب حصرها.

كل هذا صحيح، ولكن هل فكرنا في تجاوز هذه المظاهر والنفاذ إلى أعماق الجيل الذي يتشكل في ظل هذا الواقع؟ جيل يصحو من نومه ليجد المربية الأجنبية أمامه تعتني به؛ تعد له طعامه، وتساعده في ارتداء ملابسه، وتحمل عنه حقيبة كتبه، وتصحبه مع السائق الأجنبي إلى مدرسته.

حيث يتلقى تعليمه على أيدي معلمين ذوي هويات مختلفة، ويجلس إلى جواره زملاء من بلدان متعددة، خصوصا في المدارس الخاصة حيث يفضل أغلب المواطنين إدخال أبنائهم، ويخرج إلى الشارع ليجد نفسه وسط هذا الخليط المتنوع من البشر ذوي الألسن والعادات والتقاليد والهويات والثقافات والديانات السماوية وغير السماوية، وكل ما يمكن أن يعرض الهوية الوطنية للذوبان.

ليس من حيث المظهر المتمثل في الملبس والمأكل والمشرب واللسان فقط، وإنما من حيث الجوهر، وهو الإحساس والشعور بالمواطنة، ومن حيث نمط التفكير الذي أصبح يشكل خطورة أكبر في مسألة ضياع الهوية. هذا ما نعنيه بالعمق، الذي ربما كان غائبا عن المهتمين بالمحافظة على الهوية الوطنية.

نمط التفكير هذا يصيبك بالصدمة وأنت تتحاور مع طالب تلقى تعليمه في مدرسة خاصة وأصبح على أبواب الجامعة، فتجده يدعو إلى تجنيس كل المقيمين على أرض الإمارات، وهو مقتنع كل الاقتناع بأحقيتهم في الحصول على جنسية الدولة، لأنهم هم الذين بنوا البيوت والمدارس والمستشفيات ومدوا الطرق، وهم الذين يعملون في أغلب المرافق، بدءا من تنظيف الشوارع، وانتهاءً بصيانة الطائرات! تقول له: لكن هذه عمالة أتت من أجل كسب لقمة عيشها، نحن الذين أتحنا لها الفرصة كي تكسب رزقها في بلدنا، فالمنفعة متبادلة، ولا منة لطرف على الآخر، فيقول لك:

ها هي الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية، تمنح جنسيتها لكل من يولد على أرضها، أو يقيم فيها عددا من السنوات تحددها قوانين الهجرة فيها، فلماذا لا نفعل نحن ذلك؟

فتجيبه: لأن سكان هذه الدول الأصليين هم الأكثرية، ومهما ولد على أرضهم من بشر فلن يشكلوا إلا نسبة ضئيلة من عدد السكان، بينما نحن أقلية، ولو طبقنا هذا على المقيمين في بلدنا لوجدنا أنفسنا ننقرض ونتلاشى خلال أعوام قليلة، تماما مثلما حدث للهنود الحمر في الولايات المتحدة والأبوريجينل في أستراليا. ينظر إليك غير مقتنع برأيك، ثم يولي عنك وهو يقول: لكنّ هذا لا يتفق مع قواعد العدل والمنطق، ولا مع قوانين القرن الحادي والعشرين الذي نعيش فيه!

عندها فقط تدرك أن كل ما بذلته وتبذله الجهات الرسمية وغير الرسمية من جهود لترسيخ الهوية الوطنية، وما أنتجته وتنتجه من برامج، يذهب أدراج الرياح، لأنه يلامس السطح ولا ينفذ إلى العمق.

وعندها تشعر أن الخطر المحيق بهويتنا الوطنية، أكبر بكثير مما نتصور أو نتوقع، لأنه خطر يستهدف ما هو أهم من المظهر الخارجي؛ منطقته عقول أبنائنا التي بدأت تتسلل إليها أفكار غريبة من هذا النوع، خطر ينطلق من الحاضر، لا ليهدد الهوية بالشكل التقليدي المتعارف عليه، وإنما ليهدد المستقبل بكل عناصره ومكوناته، التي أهمها هذا الجيل الذي ينشأ متشبعا بهذه الفكرة وأمثالها.

Email