يعترف أكثر شراح ومؤرخي تجربة الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في الجزائر، بأنه كان من المستحيل فرنسة هذا البلد أو أوربته.

 وبعد التحري التفصيلي للمشهد الجزائري من الداخل منتصف خمسينيات القرن الماضي؛ وقت اندلاع ثورة التحرر والاستقلال، يقر هؤلاء بأن المسافة بين المستوطنين الأوروبيين وسلطتهم الحاكمة، وبين السكان المحليين «الأصليين»، كانت شاسعة.. إذ كان 90% من هؤلاء السكان فلاحين ولا يتكلمون الفرنسية خارج المدن، ولم تكن ثمة إمكانية للمساواة بينهم وبين المستوطنين. وبلغ استعلاء الأخيرين مستوى أقنعهم بأن الجزائريين ليسوا بحاجة إلى المواطنة وحقوقها.

أهم من ذلك أن القِيم التي حملها المستوطنون كانت تختلف كلياً عن قِيم الجزائريين وبنيتهم العربية الإسلامية المتجذرة.

بناء على هذه التباينات ونحوها، يخالف الباحثون الفرنسيون المنصفون الرأي القائل بأن ضم الجزائر إلى دولتهم كان قاب قوسين، لولا أن الثورة الجزائرية أدت إلى معاكسة هذا الاتجاه.. بل ويؤكدون أن هذه الثورة ما جاءت إلا توكيداً لفشل فكرة الضم، وأن تطبيق هذه الفكرة كان يقتضي قروناً.

تأتي هذه الشروحات والمدارسات من الجانب الفرنسي بمناسبة مرور خمسين عاماً على تحرر الجزائر. وفي الإطار ذاته ثمة من يدعو إلى إعادة التأريخ للقضية الجزائرية من مبتداها إلى نهايتها بعقلية باردة حيادية وموضوعية، تسمح بها المسافة الزمنية التي مرت على تلك الحقبة الملتهبة.

لا ندري ما إن كانت أحوال الفلسطينيين شبه المرتبكة راهناً، تدع فرصة لمتابعة هذا الجدل المتجدد حول السابقة الجزائرية، التي كانت، وربما مازالت، ملهمة لحركتهم التحررية. ونحسب أن متابعة كهذه ستكون مفيدة لجهة الإضاءة على نقاط مجهولة أو غامضة، والإجابة عن أسئلة هي محل تناظر فلسطيني داخلي.

لقد استقرت القوى السياسية الفلسطينية مؤخراً على الرأي القائل بحكمة التوسل أكثر فأكثر بأدوات الكفاح الشعبي، وما يُعرف بالمقاومة اللا عنفية، وهذا ما يتعارض إلى حد كبير مع النهج الذي اختطته هذه القوى منذ زهاء خمسين عاماً، حين اعتمدت الكفاح المسلح وسيلة وحيدة للتحرير ضمن الانفعال بأصداء الثورة الجزائرية.

وتقديرنا أن هجران الفلسطينيين لهذه الوسيلة كلياً أو جزئياً؛ بصفة دائمة أو مؤقتة، لا يعني إلقاء بقية رواية الاستعمار والتحرير الجزائرية ظهرياً.. فقد لا تتطابق هذه الرواية خطياً مع تجربتهم الاستثنائية، لكن تلاقي الحالتين عند البعد الاستيطاني يفرض على المعنيين الفلسطينيين إمعان النظر والتأمل في النموذج الجزائري من منظورات وزوايا أخرى، غير مجرد الأخذ أو عدم الأخذ بوسيلة العنف المسلح. على سبيل المثال، يستطيع فقه التحرر الفلسطيني أن يستفيد من الجدل الدائر حالياً حول أسباب مغادرة المستوطنين الأوروبيين الجزائر غداة استقلالها..

فهناك من يعتقد اليوم أن استيطان الجزائر أوجد فيها جالية أوروبية ضخمة، وأن هذا الوجود هو الذي حفز سلطة باريس على التفكير في ضم الجزائر، واستتبع ذلك استمرار نزيف الدم هناك بشكل بالغ الضراوة.

ويقال إن اللحظة التي تأكدت فيها باريس من استحالة الضم المطلق للجزائر والدخول في مفاوضات جدية على استقلالها، هي ذاتها اللحظة التي أيقن فيها المستوطنون بأنه لا مستقبل لهم هناك، ولابد لهم من الرحيل.

لكن المثير بالخصوص، والذي يحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء، ما يشير إليه البعض حول عدم إجماع الجزائريين على قضية رحيل المستوطنين، وأنهم رغبوا فقط في استقلال بلدهم وطي صفحة الاستعمار بكل فظاظته وعنصريته. ويذهب أحد القادة المحليين للثورة الجزائرية في أوجها إلى أنه سأل قادته الأعلى عن تلك المسألة، وأنهم أجابوا جميعاً بعدم تفضيلهم رحيل الفرنسيين، وأنهم لا يطلبون سوى الاستقلال.

تُرى هل يقارب المستوطنون الإسرائيليون قضية مستقبلهم بهذه الطريقة؟ هل يرون في حديث الاستقلال والدولة الفلسطينية إيذاناً بغروب شمسهم في الضفة ورحاب القدس، ومن هنا يشددون النكير ضد الفلسطينيين من ناحية، وضد حكومتهم من ناحية أخرى، علهم يفلحون في الحيلولة دون نتيجة كهذه؟..

أم أننا بصدد قياس فاسد، باعتبار أن المخاطر المحلقة في أفق الاستيطان الصهيوني عند قيام الدولة الفلسطينية، أقل بكثير، مقارنة بما كان عليه حال المستوطنين الأوروبيين في الجزائر؟.

الاحتمال الأرجح هو أن المستوطنين الصهاينة يدركون أن دولتهم لن تتخلى عنهم، وأنها سوف تشكّل لهم شبكة أمان قوية، وأن القلة المعزولة منهم فقط هي المرشحة للاختيار بين الرحيل وبين الاستمرار تحت السيادة الفلسطينية.. أما الأكثرية، حيث الكتل الاستيطانية الكبيرة، فإنهم سوف يلتحقون بإسرائيل على جميع الصعد، وسيفلتون من براثن السيادة أو السيطرة الفلسطينية تحت بند تبادل الأراضي أو تبادل الأراضي والسكان.

وقد يعزى اطمئنان مستوطني الضفة، قياساً بمستوطني الجزائر قبل نصف قرن، إلى كون إسرائيل الحامية لهم قريبة منهم ومتواصلة معهم على مدار الساعة، إذ لا يفصلها عنهم بر ولا بحر، كما هو حال فرنسا، وأوروبا عموماً، مع الجزائر، قبل الاستقلال وبعده. الشاهد أنه لا يصح الاعتقاد بأن مستوطني الضفة سوف يحملون متاعهم ويرحلون عاجلاً خلف قواتهم المحتلة بسهولة، بعد استقلال فلسطين الدولة.

لكن المثل الجزائري يحمل دلالة قياسية أكثر صدقية بالنسبة للحالة الفلسطينية، إذا ما تعلّق الأمر بالجدل حول بديل الدولة الواحدة بين المستوطنين القدامى والجدد، وبين الشعب الأصلي.. فما أخفق في الجزائر لا يمكن تصوُّر نجاحه في فلسطين التاريخية.