أبناؤنا.. أفضل وأسوأ ما فينا

ت + ت - الحجم الطبيعي

أبناؤنا هم أفضل ما فينا، وأسوأ ما فينا... هذه العبارة قالها إسماعيل الغجري الذي ظهر في مقاطع عابرة من فيلم «الطريق» ــ «The Way»، الذي مثله مارتن شين، وهو فيلم يحكي قصة أب يموت ابنه الذي لم يكن على وفاق معه، في حادث بعدما سافر في رحلة الحج المسيحية الشهيرة المسماة بــ«الكامينو دي سانتياغو»، فيسافر الأب لإحضار جثمانه من هناك، ويقرر أن يحج نيابة عنه تخليدا لذكراه.

الفيلم رائع جدا، ومن نوعية تلك الأفلام التي تحركك على سلم المشاعر ما بين البكاء والضحك والتأمل، ولن أفسد القصة على من سيشاهدونها، لكنني أنصح بمشاهدته لمن يحبون هذا النوع من الأفلام.

وعودا على بداية المقال، فيطيب لي أن أفهم عبارة الغجري إسماعيل على وجهين، الأول هو أن أولادنا يحملون بحكم الوراثة أفضل خصالنا وأسوأها، بطبيعة الحال، ولهذا فتذمر الوالدين من تصرفات أبنائهم، يجب أن لا يتجاهل هذه الحقيقة، ولذلك أيضاً كان المثل الشهير؛ من شابه أباه فما ظلم. والوجه الثاني.

والذي سيكمل الصورة، يستند إلى الحقيقة المثبتة علميا بأن العامل الوراثي لا يشكل سوى الجزء الأصغر من تكوين شخصياتنا وخصالنا وطباعنا، وأن الجزء الغالب من شخصية الإنسان وخصاله وطباعه هو ناتج عما يحصل عليه هذا الإنسان من طريق المؤثرات البيئية التي يتعامل معها.

ويحتك فيها طوال حياته. وبهذين الوجهين سويا، يكون الغجري إسماعيل قد أصاب بقوله أن أبناءنا هم أفضل ما فينا وأسوأ ما فينا، فذلك صحيح من خلال ما نورثه إياهم عبر شفرتنا الوراثية، وكذلك ما نعلمه إياهم ونغرسه فيهم، عبر معيشتنا وتعاملنا معهم من نعومة أظفارهم وحتى يكبرون ويستقلون.

هذه الحقيقة يجب أن لا تغيب عن الوالدين أبداً، لأن الأبناء هم، وإلى حد كبير، نتاج عميق لما يغرسه فيهم الآباء والأمهات. وأغلب، إن لم يكن كل، النماذج الناجحة والفاشلة من البشر، على حد سواء، يمكن تتبع عواملها إلى المرحلة الأسرية والسنين الأولى من العمر.

هذا الأمر يقلقني كثيرا على المستوى الشخصي وأنا أشاهد أبنائي يكبرون وتأخذ شخصياتهم بالتشكل في اتجاهات مستقلة مختلفة، فلطالما شغلني التفكير فيهم وفيما يجب أن أقدمه وأفعله تجاههم، حتى أطمئن وأكون راضيا من قيامي بدوري كأب، على أكمل وجه.

تربية الأبناء تتجاوز وبكثير، مسألة الإنفاق المادي، وتوفير الاحتياجات الحياتية لهم، ورعايتهم صحيا وما شابه. وأنا كأي أب وأم، أدرك هذا بشكل كبير جدا، سواء على المستوى النظري، أو من واقع الصراع اليومي، إن جاز لي أن أستخدم هذا المصطلح هنا، في تعاملي مع أبنائي، خصوصا عندما دخل ثلاثة منهم سن المراهقة.

وبدأت شخصياتهم وآراؤهم وأفكارهم بالتشكل والتبلور بشكل واضح وحاد، وما عاد من السهل، بل ما عاد من المقبول، أن يُفرض عليهم شيء من قبيل افعل هذا ولا تفعل ذاك، وصار كل شيء يحتاج أن يمر عبر قنوات طويلة ومتشابكة من النقاش والحوار ومحاولة الوصول إلى الاقتناع ما بين الطرفين.

نعم. أقول «ما بين الطرفين»، لأن سلطة الأب العليا أو المنفردة، في إدارة شؤون أبنائه وفرض الأوامر عليهم، ليست سوى وهم في واقع الأمر، طالما أنهم، وهذه حقيقة، قادرين وقابلين لكسرها والتمرد عليها بألف طريقة وطريقة، في هذا الزمن المفتوح جدا.

شخصيات مختلفة، وأحيانا متباينة بشكل صارخ ما بين الأبناء، تحتاج رعاية وعناية وانتباها مختلفا ومستقلا لكل واحد منهم، وأما استخدام الطريقة التربوية القديمة، التي تعتمد على الإنجاب، وترك الطفل ليتعلم في مدرسة الحياة، فما عاد ممكنا أبدا، في ظل هذا الواقع المفتوح المليء بالمؤثرات السلبية السريعة القادرة على الاختراق والوصول لهم من كل اتجاه وعبر كل الموانع والحواجز.

تربية الأبناء هي من الأساس مسؤولية شرعية وأخلاقية موضوعية كبرى، وقد كبرت وصارت أكبر في عصرنا الحالي ولا شك، وهي لذلك لا تحتمل التساهل أو التجاهل أو التخاذل. يقول النبي عليه الصلاة والسلام، في الحديث الشهير: كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته. حتى قال: «والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته». وقال في حديث آخر: «خيركم خيركم لأهله».

أبناؤنا، هم استثمارنا الأهم في هذه الحياة، ومثلما أن الإنسان يحرص أشد الحرص على البحث عن الطرق الاستثمارية الصحيحة والمربحة لتنمية أمواله، فعليه أن يحرص كذلك، بل وبحرص مضاعف، على تلك الطرق والوسائل الصحيحة التي تضمن له إخراج أبناءه على أحسن ما يكون لمواجهة هذه الحياة والنجاح فيها كأفراد صالحين.

لا يشغلني كثيرا في تعاملي مع أبنائي اليوم تفوقهم الدراسي، وإن كان هذا الأمر مهما إلى حد ما، وإنما ما يشغلني حقا وأكثر من ذلك بكثير أن أغرس فيهم بذور النجاح التي أؤمن بأنها أضحت لأزمة لأي إنسان في عصرنا الحالي. أحرص كثيرا على محاورتهم ودعم تكوين شخصياتهم المستقلة القادرة على التفكير بشكل سليم لتحديد رؤيتها لما تريد أن تفعله وتكونه.

وأنشغل دائما بتعزيز قدراتهم على اتخاذ القرارات والاعتماد على النفس، والقدرة على التعبير عن النفس والتواصل مع الآخرين واحترام جميع الناس وكل مفردات الحياة من حولهم وتقديرها. وهذا الأمر، وإن كان سهلا قوله، فليس بالأمر الهين في الحقيقة، ولهذا فلا زلت، وسأظل لطبيعة الحال، أفلح أحيانا وأخفق أحيانا أخرى، حتى يتشكل نباتهم ويستوي على سوقه، متخذا شكله النهائي الذي أرجو من الله أن يكون صالحا نافعا لنفسه وللناس من حوله.

أبناؤنا، وكما قال الغجري إسماعيل، هم صورة وانعكاس لنا بشكل من الأشكال، فلنسع بقدر ما نستطيع أن نجعل منهم صورة جميلة وانعكاسا مشرفاً.

 

Email