الكتابة في هذه الأجواء غير المسبوقة في دولتنا الحبيبة، تلقي بظلالها على أي كاتب لا يعرف كيف يدير ظهره لما يحدث من سجالات فكرية عقيمة على مواقع التواصل الاجتماعي، استطاعت أن تخترق تفاصيل حياة المتابع البسيط بإحداث نوع من الانهيار النفسي، حين يتصور أن لحمة أبناء هذا الوطن تكاد تنفرط ونحن المحسودون منذ زمن على هذا التلاحم وإن اختلفنا.

ولكن ما يبدو على السطح من صراع للأفكار قد يتجه بنا إلى الهاوية، فحتى هذه اللحظة لا يزال الزيت يصب صباً على النار، ولا يزال البعض يزرع بذور الفتنة ويذكيها، وأصبح بعض شباب الإمارات مصنفين وإقصائيين وموتورين، يتبادلون الاتهامات والتخوين والمزايدة على الوطنية. وباختصار؛ أصبحنا فرجة لكل من يريد التشفي والتهكم، وازداد الحزن في قلوب بعضنا حين وجد نفسه عاجزاً أمام هذا الانحدار حتى في لغة الحوار، فلا يمكنك مجاراته أو غض النظر عما يحدث، ولكنه كان فرصة طيبة لبعض المطبلين والأبواق من هنا وهناك، واستطاعوا أن يحققوا مرادهم بإيجاد هذا المناخ غير الصحي الذي لا يليق بسمعة أبناء الدولة، ولا بالمستوى الثقافي والعلمي الذي عرف عند أبنائنا.

فبين ليلة وضحاها نزعت الثقة عن الكثيرين وأصبحوا بفجائية غير مسبوقة "خونة وعملاء"، وأصبحت هذه المصطلحات هي ديدن البعض يتغنى بها بإدراك أم بغير وعي، فالاختلاف في الرأي لم يفسد للود قضية، بل على العكس تماماً، فمجتمعنا ولله الحمد متجانس بفضل حكمة القيادة الرشيدة التي لعبت دوراً في المحافظة على هذا الكيان واحتضنت الجميع، وكنا ولم نزل نختزل أسماءنا وكياننا وملامحنا في اسم واحد هو "الإمارات"، ولا يمكن لأي أحد أن يزايد بوطنيته على الآخر، ولا أن يقصيه لمجرد الاختلاف معه في الرأي، وكما يقول بيت الشعر القديم "إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم"!

فبعضنا قد لا يدرك اليوم حجم التحديات الضخمة التي تواجهها دول الخليج العربي، والتي لا تنفك عن الدفاع عن كياناتها وشعوبها أمام مخططات أمنية وتوسعية تحاول أن تلتف على أمن وسلام المنطقة بزرع بذور الشقاق والفتنة، فالخطر الخارجي لا يزال يتجدد كل يوم، بل ازداد وطأة حين استطاع أن يشق الصفوف في بعض دول الخليج ويحدث بلبلة أمنية روعت الناس وفتنت بعضهم، واستطاع بعضهم أن يخترق هذه المجتمعات تحت مسميات متعددة، فبعضهم إعلامي مرموق وبعضهم مستثمر وآخر خبير، وكلهم يحملون أجندات لا يعلم بها إلا الله، ويحاولون بطرق مختلفة أن يخربوا نسيج المجتمع الواحد، بنزع الثقة وإحداث الفرقة وإشغال الرأي العام بقضايا لا تعبر عن هموم الوطن، بل على العكس تحاول أن تنهش في إنجازاته وتحرق مراحل من الوحدة والإخاء.

وقد كاد هذا أن ينجح في الكويت لولا إدراك العقلاء أن الهجمة الشرسة لا تستهدف بلدهم فحسب، لذلك جاء الالتفاف سريعا ومعبرا عن رغبة جميع أطياف المجتمع في المحافظة على الوطن، بل ذهب هذا الشعب الأبي إلى قول كلمة حق في ما كان يحدث في البحرين، بالوقوف قلبا وقالبا مع الحكومة البحرينية داعمين لتحركات درع الجزيرة.

ولعل هذا درس يمكن أن نستشف منه كثيرا من الدروس، ونستلهم منه كيف يمكن أن نكون مجتمعاً نهضوياً كالكويت، يعج بالمثقفين والكتّاب وبشتى الانتماءات الفكرية، والتي تختلف كل يوم لكنها تتلاقى على حب الوطن بلا ضغائن، ودون أن يقصي واحدهم الآخر أو يتهمه باتهامات ما أنزل الله بها من سلطان.

إن ما نراه اليوم من هدر للوقت ولكرامة بعضنا البعض، لا يتناسب مع اسم دولة الإمارات، ولا بد من وقفة نتأمل فيها النتائج قبل أن تأخذنا الحماسة إلى حد لا تحمد عقباه، فالعقلية "المكارثية" التي باتت سائدة في لغتنا اليومية، تخدش بالدرجة الأولى إنسانيتنا، ثم تقفز لتبدد أحلامنا نحو مستقبل هذا الوطن والذي لن يقوم إلا باحتضان جميع الأصوات التي تغرد داخل السرب وخارجه، لأنهم مهما بالغوا في النصيحة فإنهم يبقون شرفاء ومحبين للقيادة وللوطن، وربما هذا الذي يميز مجتمع الإمارات بحبه لقيادته دون مداهنة أو زيف، فمن منا لا تدمع عيناه حين يستحضر القائد الوالد زايد، ومن منا لا ينظر لخليفة فيشعر بالفخر نفسه؟

ولكن لعن الله الفتنة التي عكرت صفو الأخوة، وجعلت البعض يتساقط أمام انفتاح الحوار في المواقع الاجتماعية، فأصبح التجاذب والتنافر يبنى على منطق "معي أو ضدي"، ما جعل البعض يكيل بمكيالين لدرجة أصبح فيها الضحك كالبكاء. والمفارقة أن تدفع دفعاً لتتبنى وجهة نظر قد تبقى آخر همك، فقط كي لا تتهم بالتواطؤ من قبل هذا أو ذاك!

لذا نحن اليوم بحاجة إلى خطاب عقلي يتبنى مصالحة سريعة لأبناء الوطن، فاستمرار الوضع يصيغ علاقة جديدة بين الإخوة ويجعلهم في خانة الأعداء، ومع الوقت تتحقق أهداف المندسين بين ظهرانينا، وهذا طالما حذر منه كثير من المحللين والاستراتيجيين الذين قدموا قراءات كثيرة في خطورة أي انقسامات في نسيج هذه المجتمعات، لأنه سيعود على مستقبلها بالفرقة والتشرذم.

الثقة في عودة المياه لمجاريها دون أن نتيح مجالاً لصيادي المياه العكرة لاستغلال بعض القضايا في النيل من وحدة صفوفنا، منوطة بطي الفتنة واحترام بعضنا بعضاً، والعودة إلى الحيادية والوسطية وحسن الظن بالآخرين، بعيداً عن الهوس بتداعيات الربيع العربي، فربيعنا دائم ومسيرتنا دوماً خضراء.