الألمان يتطلعون إلى صحارينا

ت + ت - الحجم الطبيعي

صور مروعة لمأساة فوكوشيما، محطة الطاقة النووية اليابانية التي يمر عام على نكبتها تضعها مجلة دير شبيغل الألمانية على موقعها (10/3)، حيث تظهر في إحداها مدينة صغيرة بالكاد نستطيع تهجية اسمها لصعوبته (رِكوزِن تكاتا) وقد تحولت إلى قاع صفف، حيث قتل أكثر من ألفي من سكانها البالغين عشرين ألفاً، مع دمار شامل لمعالمها الحضرية.

وهذا ليس كل القصة، بل مع إشعاعات مميتة صادرة عن محطة نووية لم تستطع صمود إعصار السونامي الذي ضربها والذي جرف محيطها، من بيوت وأشجار وسيارات وغيرها، كما لو كانت قشاً يجرفها تيار النهر!!

وبزهو وخيلاء ينشر موقع الجريدة قصة نجاح قرية ألمانية صغيرة لا تكاد تظهر حتى في الخرائط المحلية لمقاطعتها واسمها فيدلهيم، تقع 60 كلم جنوب غربي برلين، لا تحوي إلا على 37 بيتاً يقطنها 150 شخصاً فقط.

وهذه القرية الوادعة أضحت منذ مدة كعبة يتقاطر عليها الزائرون من كل فج عميق. ففي العام المنصرم تواً، وفد إليها ثلاثة آلاف شخص بقصد الإطلاع على تجربتها من شمال وجنوب كوريا، ومن أميركا الجنوبية ومن إيران والعراق فضلاً عن أستراليا، وكان نصف زوارها من اليابان المنكوبة. أما تجربتها التي أتى إليها هؤلاء للإطلاع والاستفادة منها فتتلخص في أن هذه القرية قد تحولت كلياً للاعتماد على الطاقة المتجددة.

والحق، أنني لاحظت في زيارتي لألمانيا في الصيف الفائت مبلغ اهتمام هذا البلد في التحول إلى الطاقة المتجددة، حيث شاهدت بأم عيني المراوح الضخمة وقد نصبت في الجزء الشمالي من البلاد (حول ميناء هامبورغ وبينها وبين برلين العاصمة)، ثم ألواح الطاقة الشمسية في المناطق الجنوبية خاصة منطقة ميونخ. وقد قررت الحكومة الألمانية مدعومة من موقف شعبي عارم إثر أحداث فوكوشيما، التوقف عن استخدام الطاقة النووية من المحطات القائمة لديها بعد عقد واحد فقط. وهذا القرار هو تحد صعب تعمل ألمانيا بطاقتها التقنية المتقدمة التغلب عليه.

ومنذ فترة ونظر الألمان يتجه إلى صحارينا الشاسعة، التي لا يرون فيها غباراً وأتربة متطايرة و»طعوساً» (كثباناً)، بل وأيضاً مصدراً لا ينضب للطاقة النظيفة التي هم أحوج ما يكونون إليها. فوضعوا مشروعاً عملاقاً أسموه Desertec لتوليد الطاقة الشمسية من الصحراء الكبرى، وإيصالها إلى أوروبا، وسينطلق المشروع من المغرب. أما تكاليفه فخيالية، إذ مقدر لها أن تصل إلى 490 مليار دولار!! وقد تبنت المشروع شركات وبنوك رائدة كسيمنز ودوتش بنك وغيرهما.

وكما أن جميع المشروعات الكبرى ذات الأفق والرؤية الثاقبة تأتي من مبادرة أفراد يكونون أقرب إلى المغامرين الذين لا يهابون المخاطرة، فإن هذا المشروع قد تولد من عقل الفيزيائي Gerhard Knies ابن الثانية والسبعين عاماً والذي بدا أصغر من سنه بعشرين عاماً وهو يلبس قميصاً وجينزاً في شقته بمدينة هامبورغ، كما تصفه مجلة دير شبيغل (27/5/2010).

ويبدو أن نيز الألماني هذا في نظره إلى صحارينا وما تحمل من خيرات، كنظرة قرينه فرانك هولمز، الضابط النيوزلندي الذي رأى صحارينا الجرداء كنزاً ترقد تحت رمالها بحيرة ضخمة من الذهب الأسود، فكان أن حصل على أول امتياز للتنقيب عنه في العام 1923!! وبناء على حسابات الفيزيائي نيز، - والرواية لدير شبيغل فإن الأرض تتلقى من الشمس طاقة هي أكثر من عشرة آلاف مرة من حاجة الإنسان.

وأن ثلاثة آلاف كيلو متر مربع من جملة مساحة الصحاري البالغة أربعين مليون كم مربع، هذه المساحة الصغيرة، كافية لمد جميع بني البشر بحاجتهم إلى الطاقة!! ويأمل مشروعه أن تزود الصحراء الكبرى أوروبا بنصيب كبير من احتياجاتها إلى الطاقة يقدره ب700 تيراوات في الساعة سنوياً. أما التيراوت فهو ترليون وات، والترليون بطبيعة الحال هو الرقم وأمامه اثنا عشر صفراً. ولكي تقترب لديك الصورة تذكر مصباحاً صغيراً (لمبه) بمئة وات، ربما سهل عليك تخيل حجم الطاقة التي ستمدها تلك الصحراء لأوروبا.

وبالطبع، فثمة عقبات، سياسية ومالية وتقنية أمام مشروع طموح كهذا، يرمي إلى إيصال تلك الطاقة من منابعها في عمق الصحراء الكبرى إلى مستهلكيها في أوروبا وعلى وجه الخصوص إلى ألمانيا، ناقشها أصحاب المشروع، الذين أيضاً ركزوا على استفادة بلدان المنبع (المغرب، الجزائر وربما ليبيا ومصر) من هذه الطاقة الوفيرة، خاصة في تحلية مياه البحر، متفائلين أن تقنيتهم تلك ستجنب دول المنطقة الدخول في حروب بسبب شح المياه.

أخيراً نقول، أين «أهل الدار» الذين عرفوا «النفط» منذ فجر الحضارة واستخدموه في شكل أولي، بل وكانوا يشبهون الرجل الدميم بنفطويه كما لقبوا النحوي عبد الله ابراهيم الأزدي (858-935)، لكنهم لم يقدروا ذلك النفط حق قدره إلى أن حل الأوروبيون.

وها هي الشمس تلفحنا بأشعتها الحارقة وتحيل صحارينا إلى قفار في معظم أيام السنة، فهلا شمرنا عن سواعدنا وحولنا تلك الأشعة الحارقة إلى طاقة نحلي بها مياه أبحرنا فنزرع صحارينا ونرسى قواعد راسخة لنهضة دائمة تستمر بعد أن ينضب ما في باطن تلك الصحاري من نفط؟!

Email