تواجه الأمم تحديات في تطلعاتها ـ التي قد تكون مشروعة ـ ولكنها تهزم عسكريا من قوى أكبر منها، لذا لا يصبح رد العدوان عسكريا خيارا مطروحا، بل قد تكون الهزيمة مفتاحا لمسلك جديد أكثر رشدا وسلامة وأمنا، يفضي لآفاق جد جديدة ولعالم جديد.
لقد هزمت بريطانيا وفرنسا الصين في حروب الأفيون، الأولى 1839ـ1842 والثانية 1856ـ1860 وكان من نتاجها استعمار بريطانيا لهونغ كونغ، ولم تنته حروب الأفيون إلا باتفاقية في 1911، وارتفع عدد المدمنين من مليونين سنة 1850 ليصل 120 مليونا سنة 1878، ولم يأت الرد الصيني إلا من خلال الثورة الشيوعية ولتحقيق الكفاية سدا لجوع وعوز الجموع. وما تلا بعد تحقق ذلك من تغيير وإصلاح للنظام الشيوعي، كان لتحفيز الأفراد للعمل والإنتاج، بالتحول لرأسمالية مقننة منعتقة من إسار أسن الشيوعية وجمودها؛ فاسترجعت خلال هذه المسيرة هونغ كونغ من بريطانيا، وأصبح لها كرسي دائم في مجلس الأمن، وتملكت الصين من السندات الحكومية للولايات المتحدة الأميركية والأسهم في شركاتها الكبرى، بما لا تستهين به الأخيرة وتحسب لذلك التملك حسابا كبيرا..
وكذلك استعمرت بريطانيا شبه القارة الهندية، إلا أن العصيان المدني وحركة اللا عنف أجبرا بريطانيا على الانسحاب من شبه القارة الهندية بعد تقسيمها، فسارت دولة الهند على درب البحوث العلمية والتطوير الاجتماعي والاقتصادي، وهي اليوم ثاني أكبر اقتصاد في النماء بعد الصين في العالم..
كما هزمت اليابان بقنبلتين نوويتين شلتا تفكيرها، وكذلك هزمت ألمانيا بدمار شامل دك مدنها الرئيسية جوا في الحرب العالمية الثانية، دكا قطع أوصالها وضعضع قواها، فوقعت اليابان وألمانيا استسلامهما بشروط المنتصرين.
هذه الهزائم غيرت فكر الشعوب ونظرتها للعالم ومسلكها، فسلكت مسلك تنمية مجتمعاتها واقتصادها ردا لما حاق بهم من دمار مهول، ولإدراكها أن حلول المشاكل التي تواجه الأفراد والمجتمعات، لا تجيب عنها التصرفات العسكرية المدمرة، بل التنمية المجتمعية والاقتصادية التي هي حاجة جميع البشر والدول، دون استثناء لمنتصر أو مهزوم.
وقد رحبت الدول المنتصرة بمسلك الدول المهزومة، سدا لحاجاتها الذاتية قبل غيرها، وبانفتاح هذه الآفاق الجديدة أصبح للدول المهزومة في الماضي القريب، وزنها على الخارطة الدولية وفي موازين القوى العالمية.
كما نرى، بالإضافة لتلك الدول، دولا أخرى حققت حضورا دوليا لا يمكن إغفاله خلال الستين سنة الماضية، منها النمور الآسيوية؛ تايوان، سنغافورة، هونغ كونغ، وكوريا الجنوبية، عبر تنمية مجتمعاتها واقتصادها.
ما تقدم ليست معلومات خاصة الناس، وليست بخافية عن عموم الناس، فهي منتشرة عبر وسائل الإعلام المختلفة، الفضائية وغيرها، أو عبر الشبكة العنكبوتية بوسائل التواصل الاجتماعي..
لهذا عندما ثارت شعوب الجمهوريات العربية العسكرية، ثارت لأن مخدرات وسائل إعلامها لم تجد نفعا لتغطية قصور أداء الجمهوريات العسكرية المجتمعي والاقتصادي، مقارنة بالدول الأقل حظا منها قبل ستين سنة، سواء في المحيط العربي أو العالمي. فوسائل الإعلام الحديثة فاضحة فضّاحة لكل مستور، لذلك طالبت الشعوب بإسقاط النظم العسكرية التصادمية، طالبة نظما ونهجا مدنيا أول ما يعنيها تنمية مجتمعاتها واقتصادها، لأنها لم تجن في آخر المطاف من الجمهوريات العسكرية سوى الدمار الاقتصادي وتجريف التنوع الثقافي والفني وتصحره، نتيجة عسكرة الدولة.
إن ما حدث لم يكن إلا وليد ضحالة وتسطح معرفة العسكر بعلم الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والفكر والفن، وهي ليست متطلبات في المعارف العسكرية، ناهيك عن التفوق فيها، ولكن علم الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والفكر والفن، من أهم المتطلبات في كفاءة أداء الدول ونمائها.
أما ما نرى اليوم بعد سنة من سقوط بعض الأنظمة، من محاولة المتأسلمين سياسيا اختطاف الحكم، فإنه إن تحقق فلن يقل فداحة عن نتيجة عسكرة الدول الجمهورية، بل سيكون أسوأ كثيرا. فالدولة الدينية وحكوماتها الثيوقراطية وصكوك غفرانها، حاصرتها أوروبا بعد حروب عديدة في 0.44 كيلومترا مربعا بعدد سكان 800 نسمة، هي دولة الفاتيكان وسط روما. ولولا حروبها ضد هيمنة الكنيسة على الحياة الدنيا وزعمها إصدار صكوك الغفران للحياة الآخرة، لما تمكنت أوروبا من التقدم والازدهار. وقد رأينا مؤخرا كيف أقصت تركيا نظام حكمها العسكري، ودجنت أحزابها الإسلامية مدنيا، كي تؤهل نفسها لمعطيات عصرنا ودعما لمطالبتها بالانضمام للاتحاد الأوروبي.
ولكن للأسف، فإن أطروحات وشعارات المتأسلمين عندنا متخلفة، وتفتقر للفكر السياسي المعاصر ومعطياته افتقارا شديدا، فمنهم من ينتظر خروج المهدي المنتظر من سردابه، والفئة الأخرى تنتظر القائد الملهم أن يظهر بين ظهرانيهم بركة من الله، ويفخمون من يشيرون لهم بالعلماء تفخيما وكأنهم حجة الزمان في الدين والدنيا، بينما علمهم دون كبار الأعلام بما لا يقاس علما وتواضعا إنسانيا!
العالم ابن خلدون (1332ـ1406) مؤسس علم الاجتماع في كتابه "المقدمة"، له أقوال بشأن العمران والشعوب رائدة ونظرات ثاقبة، والمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (1889ـ1975)، له في "دراسة للتاريخ" دراسة أشمل وأعمق عن التحدي والإجابة بالنسبة للأمم والشعوب.
لا شك عندي بأن لشعوبنا العربية القدرة على التعلم من تاريخنا وتجارب الآخرين ومن أعلام الفكر ورواده، يمنعنا من أن نستسلم للعسكر وفكره مرة أخرى، أو لأحلام المتأسلمين وصكوك غفرانهم أو تكفيرهم، فمن شاء فليكفر ومن شاء فليؤمن، وحسابنا جميعا عند الباري يوم الدين، والدين لا خوف عليه لقوله تعالى: }إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون {صدق الله العظيم.. فلا لزيد أو عمر وكالة حصرية للدفاع عنه.
كتاب الحياة والدين أوسع وأكثر تنوعاً، من أن تسطره نياشين عسكر أو عمائم رجال دين فقط.