دول الربيع العربي وأمريكا

ت + ت - الحجم الطبيعي

تثير الأزمة الراهنة في العلاقات المصرية الأميركية، تساؤلات حول علاقات الولايات المتحدة بدول الربيع العربي، وسط تكهنات ترى أن أميركا بصدد أن تخسر مناطق نفوذ استراتيجية، في منطقة الشرق الأوسط، أي المنطقة التي شهدت الربيع الديمقراطي العربي.

ولكن الأمر ليس بهذه البساطة في التحليل، ذلك أن هناك فروقاً واختلافاً في كل حالة من حالات الربيع العربي، فهناك دول قامت فيها الولايات المتحدة بهندسة عملية التغيير وانتقال السلطة، مثل اليمن وليبيا، وهناك دول فاجأت التغييرات فيها صانع القرار الأميركي فلم يتمكن من السيطرة على التغيير، مثل تونس ومصر، وإن كان استطاع في الثانية أن يتدخل عبر وسطاء وأدوات، ليحول دون أن يكون التغيير عميقا يشكل قطيعة مع النظام السابق بتحالفاته الإقليمية وسياساته الاقتصادية.

أي إن التعاطي مع دول الربيع العربي وكأنها كيان مسمط لا فروق بينها، يعد خطأ في التحليل يؤدي إلى نتائج مغلوطة وقاصرة وغير حقيقية. فالأمر مع مصر يختلف عنه مع تونس، والدولتان تختلفان جذرياً عن كل من اليمن وليبيا. ولكن تطورات الأحداث تؤكد أن كلاً من تونس ومصر اللتين يبدو وكأن الولايات المتحدة لا تسيطر على الوضع فيهما ويبدو أن هناك إمكانية ما للقطيعة، لا ترغبان في أن تصبح العلاقات فاترة بينهما وبين الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة، وإنما هما فقط تسعيان لصورة جديدة من العلاقات تتسم بالندية والاحترام، بدلاً من علاقات التبعية السابقة.

وما نراه الآن في علاقات هذه الدول هو صراع بين منطقين؛ الأول هو منطق الندية، والثاني منطق التبعية. وهي لعبة عض أصابع، من أجل رغبة كل طرف في فرض صورة العلاقات التي يريدها. وبالطبع فإن الولايات المتحدة تدرك أن شكل العلاقات السابقة مع دول الربيع العربي لا يمكن استمراره، خاصة وأنه كان أحد أسباب الانتفاض ضد الحكومات التابعة السابقة، لكنها تريد أن تكون هناك حدود ما لاستقلال سياسات هذه الدول.

خاصة وأن هناك ملفات ما زالت عالقة في المنطقة، منها الملف النووي الإيراني. فالقطيعة بين الولايات المتحدة والدول العربية، معناه شل يد الولايات المتحدة في ما يتعلق بسياستها الراهنة تجاه إيران، سواء كانت تقوم على عزلها إقليميا أم على توجيه ضربة عسكرية لها، لأنها في كلا السيناريوهين تحتاج إلى مساعدة الدول العربية، وعلى رأسها دول من تلك التي طالها الربيع العربي، مثل مصر بالتحديد. ولكن الولايات المتحدة تدرك أن أسلوب إدارة مثل هذه السياسات، أصبح مختلفاً عن ذي قبل.

على الجانب الآخر، فإن الأنظمة الجديدة في دول الربيع العربي ما زالت تتشكل، وهي تدرك أن الوقت غير مناسب لسياسة دولية جديدة، لأنها حتى الآن لم تفكر في البدائل المتاحة، فضلا عن أن الخبرة الدولية للقائمين الجدد على الحكم، غير كافية لإحداث تغيير جذري في السياسيات الخارجية. وبالتالي فإن البديل الوحيد المتاح حاليا لهم، هو ترشيد السياسيات الراهنة، في المدى القصير على الأقل. فضلا عن ذلك، فإن هذه الأنظمة تدرك أن للولايات المتحدة أدوات وآليات، يمكنها عبرها أن تحدث ارتباكاً في عملية الانتقال الهادئ للسلطة. وهذا الوضع يعني أن علاقات الطرفين العربي والأميركي، علاقات هشة كل طرف فيها يتحسس خطواته تجاه الطرف الآخر، وكل طرف يتصرف بحذر تجاه الطرف الآخر، لأنه لا يدرك بالطبع ماذا يريد وكيف سيرد على أي خطوة مقبلة.

وهذا الوضع الراهن الذي يتسم بالسيولة وعدم التأكد، يعني أن مرحلة جديدة في العلاقات بين الطرفين ما زالت تتشكل، وأن ملامحها الحقيقية لم تتضح بعد، بل إنها قد تستغرق سنوات، وخلال هذه الفترة ستشهد حالات مد وجزر، وستشهد أزمات مكبوتة وأخرى معلنة، وحالات من التلاقي والتنسيق والتحسن، حتى تصبح هناك صورة من العلاقات تقوم على ثوابت وملامح دائمة. وما نشهده الآن هو تشابك في العلاقات، بهدف رغبة كل طرف في فرض جدول أعماله الخاص على هذه العلاقات، وأيضا فرض تصوراته الخاصة.

وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي أن الطرف الأميركي هو الأكثر دفعاً في هذا الاتجاه، لأنه يدرك عدم خبرة القوى الحاكمة الجديدة، ويريد أن يفرض عليها جدول أعماله، في الوقت الذي تشعر فيه هذه القوى بعدم الثقة تجاه الطرف الأميركي، فترد عليه بدرجة من عدم الكياسة أحيانا وتغيب عن المشهد المظاهر الدبلوماسية. وهذا هو سبب بروز الأزمة الحالية بين مصر وأميركا على صفحات وسائل الإعلام، مع أن أزمات أخرى مشابهة نشبت من قبل لنفس الأسباب المعلنة الآن، لكنها كانت تدار في الغرف المغلقة.

وهناك نقطة أخرى غاية في الأهمية، وهي أنه في ظل ما سيحدث في الأنظمة العربية من تغييرات، فإنه من المرجح أن تتحول عملية إدارة السياسات الخارجية من الفردية إلى المؤسسية، ذلك أن الأنظمة الجديدة تسير في إطار عملية بناء المؤسسات، والتي ستكون من بينها مؤسسات العلاقات الخارجية التي مسخت في ظل الأنظمة السلطوية لتصبح في يد شخص واحد هو رأس النظام.

وعملية مأسسة السياسة الخارجية، هي التي ستضع علاقات دول الربيع العربي مع الغرب عامة والولايات المتحدة الأميركية خاصة، على الطريق الصحيح.. وحتى ذلك الوقت سنظل نشاهد الارتباك هو المخيم عليها معظم الوقت.

 

Email