الصراع على الثورات العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

المتابع لمسار الثورات العربية، يجد أنها تواجه حالات من المد والجزر والتقدم والنكوص، وأنها تسير بخطوات متعرجة، وليس في مسار واضح إلى الأمام.

ومعظم التحليلات يرى أن سبب ذلك يعود إلى أن هناك ثورة مضادة ما زالت قائمة، وأن من يمارسونها يريدون إعادة النظام القديم إلى الحياة مرة أخرى. وبالطبع هناك قوى للثورة المضادة لا تريد للثورة الحقيقية أن تنتصر، وتريد على الأقل أن تعرقل تقدمها. ولكن نظرية الثورة المضادة لا يمكن بمفردها أن تفسر ما تشهده الثورات العربية من تحولات وتطورات، ذلك أن هناك صراعاً على الثورات ذاتها بين قوى عديدة داخلها، وكل من هذه القوى له تصور للثورة وحدودها، والمطلوب منها بالنسبة له فقط.

فهناك قوى ترى أن اقتصار الثورة على الجانب السياسي فقط يعتبر نجاحاً لها، في الوقت الذي ترى فيه قوى أخرى أن الثورات التي شهدتها الدول العربية، خاصة في مصر وتونس، هي ثورات اجتماعية بامتياز، وبالتالي لا بد لها من أن تستمر حتى تحقق هذا الجانب؛ أي الجانب الاجتماعي.

وهذا الجانب الاجتماعي لا يقتصر لدى أصحاب هذه الرؤية، على أن تحقق الثورة العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، لأن ذلك يتعلق بالجانب الاقتصادي، وإنما يشمل الجانب القيمي، حيث يرى أصحاب هذا الرأي أنه لا بد من أن تتغير المفاهيم الاجتماعية السائدة في هذه المجتمعات لتصبح أكثر رقياً وتقدماً، بمعنى أن تتراجع قيم ومفاهيم القبيلة والعصبية والمذهبية والطائفية، لصالح مفاهيم الحداثة والمواطنة والتسامح والمساواة، وغيرها من المفاهيم التي قامت عليها الحداثة الأوروبية.

والصراع الدائر حالياً في دول عربية شهدت ثورات، لا يخرج عن هذا الصراع بين هذه الرؤى، في الوقت الذي تحاول فيه عناصر الثورة المضادة أن تستعيد زمام المبادرة، وهو الأمر الذي جعل المشهد أشبه بالفوضى، لأن حالة السيولة الراهنة لا تمكن المحلل من تفكيك عناصرها لمحاولة تفسيرها.

والأمر الواجب الإشارة إليه، هو أن هذا الصراع في قلبه صراع بين قوى اجتماعية وسياسية، وليس مناظرة نظرية بين مثقفين أو محترفي سياسة.

وهذا الصراع له بعد جيلي، حيث يقف الشباب في مصر واليمن وتونس مع فكرة استكمال الثورة حتى نهايتها، لتمتد إلى الأبعاد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، في الوقت الذي ترى فيه القوى التقليدية والسياسيون القدامى، أن الإصلاح السياسي كاف في هذه المرحلة، وأنه يمكن من خلاله استكمال باقي الأهداف بالتدريج وعلى المديين المتوسط والطويل. ويرى الجيل الشاب أن الحرس القديم، حتى في حركات وتنظيمات المعارضة، يريدون الإبقاء على مرتكزات الأنظمة التي سقطت، لأنهم كانوا يستمدون منها مبررات وجودهم.

وليس هناك شك في أن قوى دولية وإقليمية تدلي بدلوها في هذا الصراع، وتعزز موقف أطراف في الصراع، وتسعى إلى تهميش أو عزل أطراف أخرى. وهذه القوى تريد عبر هذه التدخلات، أن تحافظ على مصالحها قدر الإمكان، وأن تهندس عمليات التحول حتى لا تؤثر على مصالحها الإقليمية. وهذا الأمر يعني أن أطرافا إقليمية وخارجية، تعد من أطراف الصراع داخل الثورات العربية.

والمطالبون بالاستمرار في الثورة من أجل إنجاز كل مطالبها بالكامل، يبررون وجهة نظرهم بأن الثورات الكبرى في العالم استغرقت سنوات أو عقوداً حتى أنجزت كل مطالبها، من الثورة الفرنسية إلى الروسية إلى الإيرانية، وهذه الأخيرة وإن سيطر عليها الملالي في النهاية، فقد ظلت عدة سنوات حتى استقرت ونجحت في تأسيس نظام جديد مختلف عن ذلك الذي سقط.

والصراع على الثورات العربية يعني أن المشهد حتى الآن لم يكتمل، على الرغم من الإجراءات التي اتخذت على الأرض، مثل تشكيل برلمانات، أو مؤسسات سياسية باعتبارها مؤسسات الثورة. فالعناصر التي ترى ضرورة استمرار الثورة حتى تحقيق الأهداف كاملة، وهي قطاعات معتبرة نوعيا وعدديا، لا تعترف بشرعية هذه المؤسسات، أو تعترف بها وترى أنها لا بد أن تظل ضاغطة عليها حتى تنفذ برنامج الثورة كاملاً، وهو الأمر الذي يعني في النهاية أن هذا الصراع سوف يستمر لفترة من الوقت.

وإذا كانت آراء أميركية نافذة، وهي تقدم نصائح للإدارة الحالية حول أسلوب التعاطي مع الثورات العربية، رأت أن هناك ثلاث قوى أساسية هي الجيوش والإسلاميون وشباب الثورة، وأن القوى الثالثة ليست منظمة، وبالتالي لا ضرر من تهميشها وإخراجها من المعادلة، وأن العسكر والإسلاميين يمكنهم أن يحددوا مستقبل الدول بعد الثورات. وهذا رأي روبرت مالييه وغسان الآغا، والاثنان لديهما صوت مسموع لدى الإدارات الديمقراطية.

ولكن ما جاء بعد ذلك من تطورات أكد خطأ هذا التصور، وبالتالي فإن الصراع على الثورات الآن بين هذه القوى الثلاث بصورة رئيسية، والقوى الأخرى الاجتماعية، هي مجرد حلف لهذا الطرف أو ذاك، وسوف يستمر الصراع بينها حتى يحسم نهائياً أو تحدث تسوية بينها، تحدد في النهاية مصير الثورة في الدول العربية، التي ما زال فيها الصراع على الثورة مستمراً.

Email