أميركا وأوروبا بحاجة إلى التفاؤل والتعاطف

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعاني الولايات المتحدة في الوقت الحالي من العجز على مختلف الأصعدة، ولكن أحد الأشياء التي لا لبس فيها، يتمثل في مشاعرها المناهضة لأوروبا. وهذا صحيح على وجه الخصوص، بين أولئك الذين يسعون لخوض الانتخابات ضد الرئيس الأميركي باراك أوباما. فقد قال ميت رومني في إحدى المناسبات منتقداً الرئيس الأميركي: "يريدنا أن نتحول إلى دولة رفاه على الطراز الأوروبي". وادعى ريك سانتوروم أن أوباما "يحاول فرض نوع من الاشتراكية الأوروبية على الولايات المتحدة".

وبالطبع، فإن هذا النوع من الثرثرة المفرطة في التبسيط، يكاد يضاهي في فائدته النظر إلى السياسة من خلال منظور اليسار ضد اليمين، الذي عفا عليه الزمن.

في الواقع، فصلت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية مؤخراً، خمس دراسات حديثة تظهر تراجع المرونة الاقتصادية في الولايات المتحدة، التي تتخلف الآن عن معظم الدول الأوروبية. وقالت إيزابيل سهيل، وهي خبيرة اقتصادية في معهد بروكينغز: "بات من الحكمة التقليدية القول: إن الولايات المتحدة لا تضاهي في مرونتها الاقتصادية معظم البلدان المتقدمة الأخرى. ولا أعتقد أنكم ستجدون العديد من الأشخاص الذين لا يوافقون على ذلك". وفي الحقيقة، حتى ريك سانتوروم، الذي يخشى من براثن الاشتراكية الأوروبية، أقر بأن الحركة في أوروبا "صعوداً إلى الدخل المتوسط، هي في الواقع أفضل مما هي عليه في أميركا".

ومع ذلك فإن أوروبا تعاني من أزمة، وهي أزمة يقودها الهوس الحالي بالتقشف، وتتعلق بالإيرادات على الأقل، بقدر ما تتعلق بالإنفاق. وعلى جانبي المحيط الأطلسي كليهما، يصبح الدليل على أنك لا تستطيع شق طريقك إلى الازدهار عبر التخفيض، أكثر فأكثر وضوحاً.

ووصفت وكالة "رويترز" مؤخراً اليونان بأنها في خضم "كساد يغذيه التقشف". وهو ليس كساداً متعلقاً بالإنفاق، ولا كساداً ناجماً عن الإفراط في الاستدانة، وإنما كساد ناجم عن التقشف.. وبداية فإنني أقترح أن تتم إضافة هذا المصطلح إلى المعجم.

وتقف حمى التقشف وراء الكثير مما تعاني منه أوروبا، غير أن بلدي الأصلي (اليونان) يتعلم بالطريقة الصعبة، أنك لا تستطيع شق طريقك إلى النمو عبر الخفض. وخطر الاضطرابات المدنية في اليونان، التي شهدتها أثناء زيارتي في الصيف الماضي، يمثل عاملاً رئيسياً، يأخذه المزيد والمزيد من القادة بعين الاعتبار عند اتخاذ أي قرار. ولم تؤد السياسات المهووسة بالتقشف، إلى النمو السلبي فحسب، بل أدت أيضاً إلى شعور أقل قابلية للقياس الكمي، ولكنه من المرجح أن يلفت انتباه السياسيين الذين يتنافسون على الأصوات، وهو أن الناس يشعرون بأنه لا أمل في المستقبل.

والآن، تخوض بريطانيا المهووسة بالتقشف، كما أشار بول كروغمان، ركوداً أطول وأعمق من ذلك الذي شهدته في ثلاثينات القرن الماضي. ومنذ فترة وجيزة، خفضت مؤسسة "ستاندرد اند بورز" تصنيف فرنسا الائتماني درجة. ووفقاً لرويترز، فإن "التشاحن والهروب من الواقع يشكلان النمط السائد اليوم، وفرنسا تسير على الطريق نحو إضاعة ما كان يمكن أن يكون أزمة تقييمات جيدة".

لقد رأينا بالفعل ما تسبب فيه هذا النوع من أزمات القيادة في إسبانيا، وقد كنت هناك خلال المظاهرة العالمية غير محكمة التنظيم، التي وقعت يوم 15 أكتوبر الماضي، حين كانت البلاد تجاوز معدل بطالة يقرب من 21%. ولم يكن التنفيس عن الغضب موجهاً ضد أي حزب أو فلسفة سياسية معينة، ولكن ضد الوضع القائم. ولا يهم الحزب الذي تمثله، فإذا كنت في موضع سلطة، فأنت جزء من النظام السياسي المكسور، والشعبان الإسباني والفرنسي، وربما الأميركي أيضاً، يريدون منك الخروج.

ومن جهة أخرى، تدفع ألمانيا باليونان إلى التخلي أساساً عن الديمقراطية، من خلال التنازل عن السيطرة على ميزانيتها. والسبب في أن ألمانيا تريد ذلك، هو أنها تريد فرض قدر أكبر من التقشف. ومن المرجح أن ينشأ عن إذعان اليونان في هذه المرحلة، المزيد من الاضطرابات.

أذكر أنني في صغري كنت أمشي إلى مدرستي في أثينا، وأمر بتمثال للرئيس الأميركي الأسبق ترومان. وكان التمثال بمثابة عنصر تذكير يومي بالدولة العظيمة المسؤولة عن "خطة مارشال"، من بين أمور أخرى. كان لكل شخص في اليونان إما قريب، أو، في حالة عائلتي، صديق، رحل لإيجاد حياة أفضل في أميركا. وكانت عبارة "حياة أفضل"، هي العبارة التي ربطها كل شخص دائماً بأميركا. لذا، بعد أن قمت برحلتي إلى أميركا، وبعد أن وجدت تلك الحياة الأفضل، وبعد أن ربيت أولادي في أميركا وعشت نسختي المهاجرة الخاصة من الحلم الأميركي، فإنني أتطلع إلى أوروبا بمزيج من القلق والأمل.

وإذا أريد لأوروبا أن تخرج من هذه الفوضى، فإنها ستحتاج عنصرين أساسيين، وهما تعاطف يغذي مجتمعاً مدنياً قوياً، وابتكار تغذيه روح المبادرة. وإنتاج نظام سياسي يكافئ هاتين السمتين الأساسيتين، بدلاً من أن يكون تحت رحمة جماعات الضغط والجهات المانحة للأموال الكبيرة، سيتطلب التحدث والتوجه إلى الشبكات الاجتماعية، بل والتوجه إلى الشوارع.

وقد كتب الصحافي الإيطالي لويجي بارزيني قائلاً: إن أميركا "متفائلة بشكل مخيف، ورحيمة وسخية بشكل لا يصدق. وقد كانت الرياح الروحية هي ما دفع الأميركيين إلى الأمام منذ البداية". ونحن، في كل من أوروبا وأميركا، بحاجة ماسة إلى عاصفة قوية أخرى من تلك الرياح، وإلى ما يصاحبها من تفاؤل وابتكار وإبداع.

Email