انتهت انتخابات مجلس الأمة الكويتي بحلول صباح الثالث من فبراير الجاري، وذلك بإعلان النتائج بعد أن أمضت لجنة الانتخابات يوما كاملا في فرز أسماء الناجحين في الوصول إلى مقاعد مجلس الأمة في دورته الجديدة، والتي أعقبت قرار حلّه نهاية السنة المنصرمة.

والمتابع لهذه الانتخابات والإرهاصات التي سبقتها وأثناءها، لا بد أنه شعر بكثافة الأحداث الدراماتيكية التي واصلت تأجيج الروح القتالية بين أعضاء المجلس، الموالين منهم والمعارضين. فدولة الكويت شهدت خلال الشهور الماضية أزمة سياسية كبيرة، قصمت ظهر الحكومة ودفعت بالشارع الكويتي إلى الخروج عن المألوف في التفافة شعبية ضخمة، وحراك سياسي لم يسبق له مثيل، عبّر بصوت عال عن تضامنه مع نواب المعارضة ودعمه للاستجوابات في قضايا الفساد، وأسهم بشكل كبير في الضغط لاستقالة حكومة الشيخ ناصر المحمد الصباح، وبالتالي حل المجلس.

وتأتي التهم في قضية الإيداعات المليونية (المفترضة حتى الآن) لبعض النواب الموالين للحكومة، على رأس قضايا الفساد الكثيرة والإخفاقات التي توازت معها الاتهامات المتبادلة بين المعارضة والحكومة بتعطيل عجلة التنمية الاقتصادية في المجتمع، وتأزيم المحيط السياسي وما ينسحب عليه من تأزم الواقع الاجتماعي في البلاد.

وربما نتوقف عند كلمة "تأزيم"، تلك التي صبغت معارضة النواب الكويتيين ووضعتهم في خانة ربما لا تليق بحربهم ضد الفساد والمفسدين، وتركت من لا يعرف أسباب هذه التأزيمات في حالة حنق شبه دائمة عليهم، خاصة وأن الشأن الداخلي للكويت وقضاياه يبقى شأنا محليا داخليا، إلا أن الانفتاح الكبير للفضاء الإعلامي، وسقوط الحدود السياسية نظريا، قد وضعت المشاهد في قلب الحدث وفرضت عليه نوعا من التفاعل مع ما كان يحدث في فورة الانتخابات وما سبقها، انعكس على فهم أعمق وأكثر توازنا لإطار الصورة الكلية للحياة السياسية والدستورية في هذه الدولة العريقة في مجال ممارسة الديمقراطية وتفعيل قيمها ومبادئها.

وما يلفت النظر في مناخات وكواليس العملية الانتخابية، هو ثقافة الانتخاب نفسها السائدة في المجتمع الكويتي، وحس الوعي العميق لأفراد المجتمع على اختلاف أطيافه. فالسياسة في الكويت لم تعد حكرا على أحد، وشؤون الوطن تتقاطع مع هموم كل مواطن بسيط بشكل يومي، وتتداخل في تفاصيل حياته، بحيث أفرزت مجتمعا تقدميا بين دول الخليج العربي، يعرف مسؤولياته وواجباته، ويوظف حقوقه لخدمة وطنه، ويحرر عقول أبنائه لإعلاء صوتهم وتكريم غيرتهم وتثمينها في الوقت نفسه.

ولعل كلمة الأمير صباح الاحمد إثر حل المجلس، قد أوضحت تلك العلاقة القوية التي تربط هذه السلطة التشريعية والرقابية بالأمة الكويتية مجتمعة. لذا رأى سموه أن قرار الحل سبب للعودة مرة أخرى إلى الأمة، لاختيار ممثليها لتحقيق المصلحة الوطنية. فهذه المصلحة تفسر عملية التجاذب والتنافر بين النخبة وبين المشتغلين بالعمل السياسي من ناحية، وبينهم وبين الناخب من ناحية أخرى.

فالأمة من وجهة نظر الأمير، تختزل في الفرد والعكس بالضرورة صحيح. ولذا حين ننظر لهذا الحدث في الشقيقة الكويت، فإننا نشعر بالغبطة لهذا "الديالوغ السياسي" الذي يراه البعض تأزيما، ونراه نتاجا لقوة السلطة الرقابية على مؤسسات الدولة، خاصة وأن العملية الديمقراطية تقوم أساسا على هذه المؤسسات وتحمي مكتسباتها، وتكشف فسادها، وتضع ملامح المستقبل بناء على أسس لا تتعلق بالتنمية الشكلية غير المستدامة، وإنما في إطار وثيق من القوانين التي تحافظ على حقوق الوطن والمواطن.

لذا يبدو مفهوما حين انحاز الناخب مع مطالب المعارضة، وانتصر لها من خلال انتخاب تلك الأصوات التي ثارت في وجه الفساد وكسبت قلوب الناخبين، واحترمت عقولهم. وعلى الرغم من الدعم الكبير الذي قدمته القبائل لمرشحيها، إلا أن القبيلة بدت منحازة أكثر لصوت الحق الذي ارتفع في صوت أبنائها أعضاء المجلس.

ولعل هذه بداية زمنية موفقة لتجريد أو تحييد موقف القبيلة في المستقبل، والانتقال بها من عنصر الولاء والانتماء، نحو الصعود لمعطيات تتوازى مع عمر التجربة البرلمانية في الكويت، وتركز في الأساس على من هو الأصلح والأنسب، بل ومن المهم أن يكون الأكثر وعيا وعلما، بغض النظر عن تصنيفه السياسي أو دائرته، ولذا لا بد أن يعاد النظر في شروط القبول للمجالس النيابية، والتي يقتصر بعضها على أن يكون النائب ملما بالقراءة والكتابة، مما يدفع أنصاف المتعلمين وخريجي الكتاتيب إلى مصاف المرشحين، بل والتزاحم مع النخبة من المفكرين والأكاديمين والمثقفين.

الحياة البرلمانية في الكويت تستدعي دفقا خاصا من النشاط والحماس والتحرر الفكري، وربما الأكثر لفتا للنظر هو الزخم في طرح هذا الفكر، في سقف عال من الشفافية والحرية المسؤولة التي جعلت الكويتي مفوها ومفكرا وواعيا، ونموذجا للانفتاح على تعددية ثقافية أوجدت مناخا نوعيا قل نظيره في المنطقة.

فبناء الإنسان هو أساس بناء الدولة والوطن، واللبنة الأساسية في أي مجتمع هي هذا الفرد الذي يحمل فكرا وقلما وفعلا يخدم به وطنه.. فهنيئا للكويت بعرسها الانتخابي، والأهم هو وصول النخبة من طيوف المعارضة التي دفعت البلاد إلى تأزيم الفساد وإسقاط أقنعته، فمرحى لهكذا مؤزمين.