مآزق حركات ربيع التغيير العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

أصيب الكثيرون من المواطنين العرب والمراقبين، بخيبة أمل متزايدة في حركات التغيير التي تستعر في بقاع العالم العربي بشكل شبه ممنهج. أوجه الإخفاق لحركات التغيير كثيرة، وتعود إلى عدم وجود خطط مدروسة بعناية للتحكم في الأوضاع، خلال وعقب انهيار الأنظمة السياسية المستهدَفة بالتغيير.

المجتمعات العربية التي خضعت للتغيير حتى الآن، تعرضت للإنهاك المتعمَّد والتلقائي، الناجم عن نشر الفوضى والتحريض على الحروب الداخلية. القوى الخارجية أرادت استنزاف تلك المجتمعات، بغية تسهيل السيطرة عليها والتحكم فيها مستقبلاً، عن قرب وعن بعد. تحتاج الحكومات الجديدة لفترات طويلة وجهد كبير لإعادة الترميم والتأهيل لأوضاعها، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً معيشياً.

تحتوي الأنظمة السياسية الجديدة خليطاً شبه عشوائي، ثمة مبرمَج! من الإداريين الجدد. هؤلاء يتوزعون على مختلف الأديان والأعراق والأحزاب والمذاهب والميول والتطلعات، والحوافز والنزوات! نظام محاصصة طائفية وسياسية وقبلية وحزبية، تتبادل العداء والحقد والتنافر والتحريض في ما بينها.

بات الحكام الجدد في وضع لا يُحسدون عليه؛ من جهة يريدون الحفاظ على أنفسهم من الاغتيالات والتصفيات والانقلابات، من أنصار أو بقايا الأنظمة السابقة. ومن جهة أخرى يريدون تسيير دفة الأمور بالطريقة التي يرونها مناسبة، في وجه معارضة جديدة تثير الجدل والنقاش حول جل الأمور المطروحة؛ نتاج من مبدأ احترام كافة الآراء المطروحة، في مجتمعات دخلت جديداً ثمة عنوةً إلى دائرة الديمقراطية وحرية الرأي. هنالك تخبط واضح في اتخاذ القرار، وتردد وتلكؤ إزاء التنفيذ.

معظم المجتمعات التي خضعت وتخضع للتغيير، خلقت لنفسها جبهات ومعارضات قويةً، نتيجةً لخوضها حروباً استعانت فيها بالقوى الأجنبية. أول مثال على ذلك هو التغيير الذي خاضته المعارضة العراقية، والذي لم يكن لينجح لولا التدخل العسكري الأميركي. واجهت وتواجه المعارضة العراقية سابقاً، والحاكمة حالياً، ظروفاً غير عادية، أدت إلى سقوط العملية السياسية بعد الاحتلال، في مستنقع ينضح انتهاكات خطيرةً وواسعةً لحقوق الإنسان.

الأوضاع في الدول العربية الأخرى لا تختلف كثيراً؛ ربما ستكون تكراراً لما يجري في العراق، مع اختلاف سطحي في الشخصيات الرئيسة والظروف المحيطة. تشير الأخبار والتوقعات والتكهنات، إلى بدء وقوع الأنظمة الجديدة في مستنقعات، تتطلب المزيد من الجهود والتضحيات لقيادة البلاد والعباد في اتجاه شواطئ الأمان.

بالذات تواجه ليبيا ومصر واليمن، وسوريا لاحقاً! أوضاعاً سياسيةً واقتصاديةً واجتماعيةً صعبةً، قد تؤدي إلى الوقوع في مآزق يصعب التكهن بما يحمل لها المستقبل. يذهب التخوف من المستقبل، لدرجة التحسب من وقوع البلاد في أتون حروب أهلية مزمنة، تؤدي إلى الفوضى والتدمير والتشقق والشَّرذمة والتقسيم، والتجزئة والتفتت. أوضاع لا مكان فيها للثوابت والمُثل العليا والمبادئ السامية والصفات النبيلة التقليدية السائدة.

كان، ومازال، بالاستطاعة تجنب الأوضاع الكارثية التي حلت وتحل بالعالم العربي؛ هذا لو يستعمل مثيرو "ألعاب التغيير" في العالم العربي، عقولهم ويلجؤون إلى اتباع الحلول الوسط. كان بإمكان قوى المعارضة والأنظمة، التخفيف من غلواء شروطهم على الطرف الآخر، في خضم الصراع على البقاء في السلطة، أو محاولة الوصول إليها عن طريق انتزاعها من الطرف الآخر. أهمُّ من ذلك، كان باستطاعة القوى الدولية المساعَدة على إيجاد وإحلال صيغ توافقية بين السياسيين الأضداد. ذلك ما يجنب الكثير من سفك الدماء وتدمير البنيات التحتية للمجتمعات التواقة للتغيير؛ تواقة للتغيير بأي ثمن.

عجزت الأنظمة الحاكمة السابقة، عن تقديم الحلول والإصلاح ومحاربة الفساد وتفادي الخضوع لموجة التغيير الدموية. الآن بات جلياً أن المعارضة السابقة، لن تكون أحسن حظاً في قيادة البلاد نحو الاستقرار والتقدم المنشوديْن، لدى الأجيال. لا بل أيقنت تلك المعارَضات السياسية، أن الأنظمة السابقة قد تكون محقةً في مواصلة "الجري في نفس المكان" طوال العقود الماضية. أيقنت أن الأمور حقيقةً ليست في أيديها، وأن دورها لا يتعدّى دور المحافظ على الأمن، عن طريق كبت الشعوب وسحق حركات التمرد أو الثورة أو حتى التغيير، طمعاً في إرضاء القوى الدولية السائدة والمسيطرة.

Email