أثبتت التجارب التنموية في الدول النامية في خمسينات القرن الماضي وستيناته وسبعيناته عدم كفاية مفاهيم التنمية التي كانت سائدة في ذلك الحين، والتي كانت منصبة في الأساس على تحقيق النمو الاقتصادي في صورته الكمية وزيادة متوسط الدخل الفردي للسكان.

والحقيقة أن هذه المفاهيم لم تكن تهتم كثيراً بالجوانب الاجتماعية للتنمية، لذلك بقيت معظم الدول النامية برغم تحقيقها النمو الاقتصادي الكمي تعاني مشكلات اقتصادية واجتماعية خطيرة. ولتلافي هذه السلبيات جاء مفهوم «التنمية المتوازنة والمستدامة» كمحاولة لوضع الإنسان في «لب» عملية التنمية الشاملة.

وإذ عدنا إلى الحقبة الماضية، نجد أن التاريخ البشري يمتلك بعض التجارب القوية في دول استطاعت تحقيق قفزات هائلة ومشهودة في ميدان التنمية مثل اليابان وألمانيا اللتين تجاوزتا ما أصابهما من دمار شامل جراء الحرب العالمية الثانية خلال فترة قياسية، أقل من 25 عاماً بعد الحرب، وبلغتا مستوى رفيعاً من التقدم والتطور، فاق في حجمه العديد من الدول الأوروبية المتقدمة مثل فرنسا وبريطانيا.

وفي إطار تحليل تجارب التنمية في هذه الدول، فإن نجاحها يرجع بشكل أساسي إلى رؤيتها واستراتيجيتها للتنمية والتقدم الاقتصادي، باعتباره إنجازاً حضارياً شاملاً ومتكاملاً يستند إلى التنوع القائم والتأثير المتبادل في العلاقات والروابط بين النشاط الاقتصادي وسواه من الأنشطة الاجتماعية.

وهذه الرؤية بالذات تؤكد أن التنمية ليست مجرد عملية اقتصادية محضة ولا يمكن النظر إليها من منظار تخصصي محدود، بل لا بد من التوازن بين القاعدة الهيكلية وأنشطة الإنتاج المباشر، وبين النطاق الأفقي للإنتاج، أي الأنشطة التي تخدم الطلب الاستهلاكي النهائي، للوصول إلى تعزيز مكونات التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وغيرها من جوانب النشاط البشري.

وضمن هذه العلاقة الحتمية، غالباً ما تأخذ التنمية المتوازنة في الاعتبار المحاور الأساسية للتنمية، والممثلة بأربعة جوانب أساسية تشكل محوراً اقتصادياً وهي الاستثماري والتعليمي والخدمي والبشري، وبالتالي لابد من التوازن بين هذه المحاور، مع الأخذ بعين الاعتبار احتياجات المناطق والمدن المختلفة بالصورتين الكلية والجزئية. بمعنى آخر إن تحقيق التنمية المتوازنة يتطلب التقارب بين الأهداف الموضوعة أساساً أو المرجوة، وبين الأهداف التي تتحقق أو الممكن تحقيقها مستقبلًا.

والحقيقة أن هذا التحليل في النمو المتوازن لا يخص التجارب التاريخية وحدها، بل إن المرحلة الحالية تمتلك تجربة تنموية حديثة ومميزة، هي تجربة التنمية المتوازنة لدولة الإمارات العربية المتحدة، التي تعد اليوم نموذجاً للآخرين في الدول النامية والمتقدمة في النمو المستدام والمتوازن. فالمتابع لمسيرة التنمية في الإمارات في فترة ما بعد الأزمة العالمية الأخيرة يكتشف أن اقتصاد الإمارات دخل مرحلة جديدة من التنمية والنمو، ليرسم حالة جديدة ومتميزة من النمو المتوازن بين جميع مكونات الإنتاج وبين كل محاور النمو الاقتصادي والاجتماعي في آن معاً، وبجهد أكثر تركيزاً وتخطيطاً وعقلانية.

فعلى مدى أربعة عقود وقيادتنا الرشيدة تعمل جاهدة على تحقيق نمو اقتصادي واجتماعي، وفق خطوات مدروسة ودقيقة وشمولية يوفر لأبناء وبنات الوطن سبل الرفاهية والعيش الكريم. ويبدو ذلك جلياً وواضحاً من الرؤية السديدة لصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، والتي تؤكد رؤيته الدائمة على أهمية التنمية المتوازنة والمستدامة في مختلف إمارات الدولة.

والشيء المهم، أن هذا النمو المتوازن والمستدام لاقتصاد الإمارات الذي يذهل العالم اليوم، ليس وليد مرحلة ما بعد الأزمة المالية العالمية، بل إن تحديات هذه الأزمة جعلت من هذا النمو ضرورة يجب العمل عليها لضمان الاستقرار الاقتصادي وتجنب الأزمات مستقبلاً. إذ كانت التنمية في الإمارات عموماً وأبوظبي تحديداً تركز على قضايا استمرارية التنمية واستدامتها، وعلى التنمية البشرية، الأمر الذي شكل أساساً للإنجازات التنموية التي تشهدها دولة الإمارات اليوم، وهي الإنجازات التي جعلت من دولة الإمارات إحدى أهم الدول ذات التجارب الناجحة في التنمية بمفهوميها المستدامة والبشرية.

لقد جعلت دولة الإمارات مفهوم «التنمية المتوازنة والمستدامة» منهجاً لرؤيتها التنموية واستراتيجيتها. ومن أجل ذلك عمدت إلى تخفيف اعتماد اقتصادها الوطني على القطاع النفطي كمصدر رئيسي للنمو والدخل، بل اتجهت إلى استثمار عائدات هذا القطاع في بناء اقتصاد متوازن وقادر على النمو والازدهار، للأجيال الحالية والقادمة.

كما اتجهت الدولة لتعزيز النمو المتوازن على حزمة من القطاعات غير النفطية منها مصادر الطاقة المستدامة التي تؤمن الدولة من خلالها دوراً مهماً في مجال الطاقة البديلة والمتجددة ومنها الطاقة النووية.

وكنتيجة لهذه الرؤى والسياسات التنموية تغيرت المفاهيم السابقة عن الوجه الاقتصادي للدولة وتضاعفت أرقام الناتج المحلي والدخل الفردي وغيرها من المؤشرات التنموية إلى مستويات عالية، فالإمارات التي يعرفها البعض بأنها دولة نفطية وأن البترول يشكل المصدر الأساس لنموها الاقتصادي وناتجها المحلي، هي ليست كذلك في أرقام الاقتصاد الوطني والناتج المحلي في المرحلة الحالية، التي أصبحت فيها مساهمة القطاعات الاقتصادية الأخرى غير النفطية أعلى من مقدار مساهمة القطاع النفطي في الناتج المحلي.

وبلغت مساهمة القطاع غير النفطي في الناتج المحلي للدولة قريباً من ( 70 بالمائة) أي بنسبة الثلثين مقابل الثلث لمساهمة القطاع النفطي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن إنتاج الإمارات زاد بشكل كبير خلال السنوات الماضية، إلى جانب زيادة الأسعار، مقارنة بالعقود السابقة. وترافق تقليل مساهمة القطاع النفطي التركيز على القطاعات الإنتاجية غير النفطية التي ساهمت في إضافة قيمة مضافة حقيقية على مكونات الاقتصاد الوطني.

بالطبع، انعكس هذا التطور على نسبة مساهمة القطاعات غير النفطية وعلى نصيب الفرد من الناتج المحلي والذي يعتمد بشكل أساس على متغيرين اثنين، هما التغيرات في الناتج المحلي وعدد السكان، ومعدلات نمو عالية نتيجة النمو الكبير في الناتج المحلي، إذ ارتفع نصيب الفرد من 86 ألف درهم في العام 2000 إلى حوالي 174 ألف درهم في العام 2010، ويكون بذلك قد حقق نمواً مركباً على طول فترة الدراسة بما نسبته 7.3 بالمئة.

كما انعكست هذه التطورات في الوجه التنموي والصورة الاقتصادية لدولة الإمارات على حركة الاستثمارات، التي أصبحت مركزاً استثمارياً عالمياً تتسابق إليه كبريات الشركات والمؤسسات العالمية، لما تتمتع به الدولة من بنى تحتية متطورة وبيئة قانونية ومؤسساتية بنيت على مدار السنوات السابقة بإصرار وإرادة.

لقد جعلت هذه التطورات والمؤشرات الإيجابية وغيرها المدفوعة بالسياسة التنموية الناجحة والعمل التنموي المتوازن، من الإمارات نموذجاً يحتذى به على المستوى الإقليمي وساعدها على الارتقاء إلى مصاف الدول المتقدمة في سلم الترتيب التنموي، إذ جاءت الدولة من إحدى دولتين فقط على المستوى الإقليمي ضمن فئة «دول العالم ذات التنمية البشرية المرتفعة جداً» وفقاً لتصنيف البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة.