حصاد دموي لحرب العراق

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكدت البنتاغون، أخيراً، النهاية الرسمية للحرب في العراق من خلال مراسم قصيرة أجريت في جانب آمن من مطار بغداد، حيث حلّقت طائرات الهليكوبتر فوق المطار بغرض الحماية.

على الرغم من أن وزير الدفاع الأميركي «ليون بانيتا» أعلن في وقت لاحق أن التكلفة التي دفعتها أميركا كانت «تستحق العناء»، فإن نظرة على الثمن تقدم تقييماً أكثر واقعية، حيث قتل4487 عسكرياً أميركياً، وأكثر من ألفي متعاقد مع الحكومة الأميركية، وإصابة أكثر من 40 ألف جندي أميركي، وقتل أكثر من 100 ألف عراقي، ما لا يقل عن مليوني عراقي نزحوا من ديارهم، وبند أخير من الخسائر يمكن أن يصل في نهاية المطاف إلى 4 تريليونات دولار من أموال دافعي الضرائب في الولايات المتحدة (وهي التكلفة البعيدة كل البعد عن مبلغ الـ 50 ملياراً إلى 80 مليار دولار الذي كانت وزارة الدفاع الأميركية قد توقعته).

من بين التكاليف الأقل قابلية للحساب من حيث الكمّ للحرب تلك التي يدفعها الرجال والنساء الذين يعانون من جروح جسدية ومعنوية خطيرة عندما يخدمون أميركا. قصصهم وصراعاتهم هي موضوع الكتاب الالكتروني الجديد بعنوان «ما وراء ميدان المعركة: الحرب مستمرة لدى المصابين بجروح خطيرة»، من تأليف «ديفيد وود» وهو كبير المراسلين العسكريين لصحيفة «هافينغتون بوست».

لقد أمضى «ديفيد» تسعة شهور يتحدث مع ذوي الإصابات الخطيرة من قدامى المحاربين الذين شاركوا في حربي العراق وأفغانستان. وبالإضافة إلى الروايات التي سمعها من الجنود وأسرهم، فقد التقى أكثر من عشرين جراحاً عسكرياً والمسعفين العسكريين ومعالجي التأهيل ومهندسي الأطراف الصناعية والممرضين والفنيين في غرف العمليات ومسؤولين طبيين في قسم شؤون قدامى المحاربين بالبنتاغون والمستشفيات العسكرية ومراكز العلاج المنتشرة في جميع أنحاء أميركا.

والنتيجة كانت قاتمة وملهمة على حد سواء، ومفجعة ومتفائلة. فهي تعكس مرونة مذهلة للروح البشرية في مواجهة أهوال الحرب المستمرة، وهي الأهوال التي تستمر لفترة طويلة بعد عودة القوات إلى الوطن.

يعتبر كتاب «ما وراء ميدان المعركة» مثالاً لكاتب مناسب على نحو فائق لموضوعه. فخلفية «ديفيد» باعتباره ينتمي إلى طائفة «كويكر» ومن معارضي الحرب، وخبرته الطويلة في تغطية أخبار الحروب، تعطيه أفضلية فريدة. على امتداد 41 عاماً من العمل الصحافي، قام بتغطية أخبار الحروب والصراعات في ست وثلاثين دولة، انتقل خلالها على متن طائرات من طراز «بي-52» و«بي-1» القاذفة، ورافق القوات الأميركية في الصومال وهايتي والبوسنة والعراق وأفغانستان. وقال «ديفيد» في هذا الكتاب: «لقد تعرضت لمواقف مرعبة في جانب كبير من حياتي المهنية». ومع ذلك، فقد ألّف كتاباً مفعماً بالبسالة.

من خلال الصور التي قدمها في الكتاب عن الجنود الجرحى وذويهم والقائمين على رعايتهم، ومن خلال عرض صور عن الظروف الخطيرة التي كان يعملون فيها والعالم المفعم بالمحن الذي يعودون إليه، فقد وضع ديفيد لوحة نابضة ذات قيمة هائلة لقطاع حيوي في الحياة الأميركية. وهو لا يمضي في عمله باعتباره باحثاً عن الحقيقة مجرداً من العاطفة، فالكثير من قوة كتاب «ما وراء ميدان المعركة» مستمدة من رغبة ديفيد في التعاطف. فقد أفزعته أعمال القوة والرحمة التي شهدها، وهو لا يحاول إخفاء ذلك.

كتب «ديفيد» يقول: «بينما كنت مراسلاً حربياً، رأيت جرحى يتم إنقاذهم على هذا النحو من ميدان المعركة، وهي تجربة مكثفة وتثلج الصدر». وأضاف: «لكني كنت أتساءل دائماً، ماذا حدث لهم بعد ذلك؟ كيف كانوا يحصلون على مصدر رزقهم: وكيف كانت تسير الأمور بالنسبة لهم، وكيف هي حياتهم الآن؟».

إن هذا المسعى من جانبه للإجابة عن هذه الأسئلة الصعبة جعله على اتصال بمجموعة من الأميركيين أصحاب البطولات. وكان من بينهم «تايلر ساوثيرن» ويبلغ من العمر 22 عاماً حيث كان جندياً في سلاح مشاة البحرية الأميركية فقد ساقيه وإحدى ذراعيه بسبب انفجار عبوة ناسفة في أفغانستان، حيث كان الانفجار قوياً لدرجة أنه تم العثور على أشلاء من رجليه وحذائه فقط. وهناك حالة «جيمس ستودارد»، وهو أحد أفراد القوات البحرية الذي يبلغ من العمر 19 عاماً، الذي أنقذ حياة تايلر، عندما قام بسرعة بربط ضمادات حول أطرافه، ووخزه بإبرة في ذراعه المتبقية وساعده على النهوض لركوب طائرة هليكوبتر للإخلاء الطبي.

وبينما يشكل الوقت الذي قضاه ديفيد مع الجرحى من قدامى المحاربين جوهر الكتاب، فإن التقارير التي كتبها تفضي إلى استنتاج قوي آخر. يقول: «الشجاعة لا تقتصر على القتال. والأبطال لا يرتدون الزي العسكري دائماً».

فعلى سبيل المثال، أورد «ديفيد» قصة «لوانا شنايدر»، التي أصيب ابنها «سكوت ستيفنسون» البالغ من العمر 22 عاماً بحروق بالغة في انفجار قنبلة في العراق. بعد سفرها إليه في مركز «بروك» الطبي التابع للجيش الأميركي في سان أنطونيو، حيث أخضع لعدة عمليات جراحية، مكثت لوانا بجوار «سكوت» في غرفة صغيرة بالفندق المجاور للمستشفى وكانت تقوم بتضميد جراحه مرتين في اليوم. كما يعرض لنا «ديفيد» حالة «ليزا فييرو»، التي تسعى للاحتفاظ بإحساس الحياة الطبيعية من أجل ولديها الصغيرين بعد مصرع زوجها «روبرت» الذي قتل رمياً بالرصاص في رأسه في العراق. صمودها في مواجهة هذه الصدمة هو أمر مذهل.

 تقول «ليزا» لــ«ديفيد»: «صممت على ألا يأتي اليوم الذي يتذكر ولداي ما حدث فيقولان: «حسناً، كانت مرحلة طفولتنا عظيمة حتى قتل أبونا. أردت أن يقولا: كانت طفولتنا عظيمة وقتل أبونا، وإننا كان علينا أن نذهب إلى واشنطن العاصمة لمدة شهر حيث قضينا وقتاً رائعاً!».

بطبيعة الحال، الأمر لا ينطوي كله على التفاؤل والصمود. ويكمن جزء من قوة كتاب «ما وراء ميدان المعركة» في إصرار «ديفيد» على كتابة التقارير، بخصوصية صارمة، بشأن الطابع «الدنيئ والقبيح» للحرب.

Email