تونس.. نجاح بامتياز في الفصل الأول

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما كنا ندرس في جامعة الكويت مساق الأدب الحديث، وكنا نناقش أسلوب أبي القاسم الشابي، لم نكن نعتقد كثيراً فيما كان يستلهمه من شعر. ولم نكن نصدق أن الشعب إذا أراد يوما الحياة فلا بد أن يستجيب له القدر. وكنا في تلك الأيام نناقش فيما بيننا كطلبة في مجال الأدب العربي قضية الوحي والإلهام عند الشعراء. ويبدو فيما يبدو أن للشعراء ذوي المراس حاسة سادسة اتفق عليها نقاد الأدب العربي، والتي ردها العرب في القديم إلى الاتصال بعالم الجن والشياطين. ومنهم من ربط بين الشعر والإلهام. أيا كان الأمر، فإنه مما يشد الانتباه في أيامنا هذه هو أن ما قاله الشابي قبل ثمانين عاما، تحقق اليوم على أرض الواقع. وأن رياح التغيير في الوطن العربي هبت أولا من تونس مسقط رأس الشابي. والأغرب أنه نجح في تونس قبل أي بلد عربي آخر. وأن تونس أول دولة تختار رئيسها ومجلس وزرائها بينما الآخرون ما زالوا بين المحاولة والفشل. وكما ذكر الشابي أيضا في نفس قصيدته: «ومن لم يعانقه شوق الحياة / تبخر في جوها واندثر». وهو بنفسه يرد هذه الفكرة إلى شيء غير مرئي. فيقول بعد ذلك مباشرة: «كذلك قالت لي الكائنات / وحدثني روحها المستتر».

لقد دفع الشعب التونسي ثمنا باهظا لانتزاع حريته. ولكسر قيوده التي تحدث عنها الشابي في القرن الماضي. فانجلى الليل وانكسر القيد. لأنه بكل بساطة أحب صعود الجبال وكره العيش بين الحفر. وهبت رياح التغيير الأخرى بعد ذلك على الوطن العربي من الماء إلى الماء، ومنهم من ينتظر. (فعجت بقلبي دماء الشباب / وضجت بصدري رياح أخر)، ولم تبق دولة عربية واحدة لم تتأثر برياح التغيير هذه التي طالما اشتاق لها العرب منذ زمن انسحاب الدولة العثمانية وانحسار الهيمنة الغربية. لقد كان الشابي يسمع قبل ثمانين عاما (قصف الرعود وعزف الرياح ووقع المطر) الذي نسمعه اليوم في سماء الوطن العربي. إنه الشابي نفسه الذي ذكر في قصيدته الشهيرة (قلب الربيع الشذي النضر). هذا الربيع العربي الذي ما زلت أصر على تسميته بالخريف المرتبط بتساقط الأوراق تماما كتساقط الأنظمة التي تعادي شعوبها. في انتظار الاستقرار التام والربيع المزهر.

تونس اليوم غير تونس الأمس. إنها قدرة قادر. وقدرة شعب. وأي مخلوق توقع أن تتهاوى في غضون سنة واحدة، ثلاثة أنظمة يصعب تحريكها من على كراسيها!

الشعب التونسي اليوم له رئيسه المنتخب. وله حكومته المنتخبة. وللشعب التونسي كلمته الفصل في اختيار من سيدير شئون يومه ومستقبله وأجياله القادمة، وإلا قلب الدنيا على رؤوسهم.

لم تعد أموال الدولة في تونس ملك شخص واحد. ولم يعد الحكم في تونس حكم رجل واحد يتوارثه لنفسه وأبنائه وأهل بيته. فالأرض التونسية هي منذ أن خلق الله الأرض، أرض الله وخيراتها هي خيرات الله وترابها تراب الله. ولا يحق لأحد أن يحتكر ذرة من رملها لنفسه دون غيره. ويحق لكل من يعيش على التراب التونسية فوق جبالها وقرب بحارها وعلى أطراف أنهارها وبين سهولها، وأي كان نسبه وأصله ولونه ومذهبه أن يكون له فيها حق كغيره في الحياة الكريمة والحرية التي يكفلها له القانون.

الكل كان يتوقع أن تنفجر البراكين في أي بقعة من الأرض إلا أن تنفجر في الصحارى العربية وبالذات في تونس لسماحة أهلها. واليوم أصبحت تونس نموذجا لفلسفة جديدة في إطلاق الثورات الهادئة في العالم التي تعيدنا إلى تذكرنا فلسفة (اللا عنف) التي ابتكرها المهاتما غاندي في محاربة أعدائه في الماضي.

الماضي كان مهما لتونس. والحاضر أكثر أهمية والمستقبل أكثر وأكثر أهمية. والرئيس الجديد والحكومة الجديدة يجب أن تضع نصب أعينها ليس فقط تطبيق توجهاتها وأفكارها، وإنما تطلعات الشعب التونسي للمرحلة الراهنة والقادمة، وما يطمح إليه في المستقبل من أمن واستقرار.

التحديات عديدة باعتراف رئيس الحكومة الجديدة حمادي الجبالي أمين حزب النهضة الإسلامية. فمخلفات النظام السابق لا يمكن إزالتها بهذه السهولة. وإعادة البناء من جديد (وليس الترميم) بنظام جديد بها نفس الصعوبة..

غير أن التحديات الحقيقية - التي إن استهين بها أعادت تونس إلى فوضى لم يعهدها حتى عصر زين العابدين بن علي- أكثر وأعظم. وأولى هذه التحديات مسألة العقيدة والدين والاعتقاد. فما عرف العرب والمسلمون سببا لحروبهم وقتالهم وتأخرهم كاختلافهم وتنوعهم في الاعتقاد والمذهب تحت ظل الدين الواحد. وبدلا من أن يكون الدين رحمة لهم والاختلاف فيه سببا لتواصلهم ونقاشهم، تحول الاختلاف في الرأي والمعتقد إلى سبب إلى الخلاف وتحول الخلاف إلى التكفير والتكفير إلى إباحة دم المسلم الآخر وتحول بعدها الأمر إلى فوضى والفوضى إلى الاقتتال.

تونس تولد من جديد، وهناك اقتصاد تم تدميره لا بد من إعادة تنميته، ومجتمع يبحث عن استقراره وأمنه، ولا بد من توفيره له وضمائر مضطربة لا بد من استقرائها. فالبطالة يجب أن تكون من أولويات هذه الحكومة. فالثورة التونسية كالثورة الفرنسية لم تنفجر بسبب القمع الفكري والديني والفساد والحكم الاستبدادي المطلق وإنما بسبب البحث عن قطعة خبز. ويجب تطبيق الشريعة الإسلامية ليس بالشعارات الرنانة بل في التطبيق الفعلي لمبادئ المساواة والأمانة والإخلاص والعدالة وحرية الآخر. وإلا فعلى تونس السلام.

الكل في العالم وليس في العالم العربي فقط، في انتظار تطبيق وعود وشعارات الأحزاب قبل الانتخابات. والكل في انتظار أن تكون تونس نموذجا يحتذى به في إعادة البناء ووحدة الصف والتضحية لأجل الوطن بين مختلف الأطياف التي تعيش على أرض تونس الخضراء.

الكل في انتظار تونس الجديدة الحرة التي رسم ثورتها المسالمة ابنها الملهم أبو القاسم الشابي قبل 80 عاماً.

Email