تصلح محاضرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، التي ألقاها في قاعة راشد في المركز التجاري في دبي، يوم الأول من ديسمبر بمناسبة اليوم الوطني الأربعين لدولة الإمارات، أن تكون منهاجا يدرس لطلبة الإعلام، تحديدا، (وإن كانت تصلح عموما لمجالات أوسع)، وذلك في مجال التخطيط الاستراتيجي. وحتى لا يبدو الكلام مجاملة أو حماسة ليست لها أسس علمية، سأستخدم أمثلة من المحاضرة تدعم ما أقول.
أولا، عندما نأتي لوضع الاستراتيجية الإعلامية، فإن أول خطوة نضعها في أذهاننا هي: ما الهدف الذي نتوخاه منها؟ لأن الهدف هو الجزئية الأكثر أهمية في التخطيط، كونه البوصلة التي نتحرك بناء عليها، وخارطة الطريق التي تقود خطواتنا.
وهناك محوران مهمان في وضع الأهداف أكثر من غيرهما، وهما إمكانية التطبيق وإمكانية القياس. وإمكانية التطبيق تتعلق بجزئيات كثيرة، منها معرفة الإمكانيات المادية والبشرية التي يتطلبها تحقيق ذلك الهدف، وهل هي متوفرة أم يجب علينا العمل على إيجادها؟ وحتى لا ندخل في التفاصيل، أستخدم هنا مثال المحاضرة في هذه الجزئية.
لقد كان واضحا أن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، كان لديه هدف واضح من تلك المحاضرة، ألا وهو تعريف الشباب، تحديدا، ليس فقط بالخلفية التاريخية لدولة الاتحاد، وإنما أيضا بتفاصيل ربما لا يعرفها الكثيرون منهم عن تاريخ المنطقة بشكل عام.
الجزئية الثانية في التخطيط هي الجمهور المستهدف، والذي غالبا ما نطرح السؤال حوله: من هو الجمهور المستهدف في التخطيط، وما خصائصه؟ طبعا تشمل هذه المسألة، ليس فقط المعلومات البيانية حول السكان أو غيرهم من المجموعات المستهدفة، وإنما أيضا معارفهم، لغتهم، ومستوى تعليمهم، والذائقة التي تتحكم في اختياراتهم.
كذلك، وبشكل خاص، نوعية القيم التي يحملونها، وذلك حتى يتسنى لنا وضع الرسائل بما يتناسب وهذه الخصائص. وأعود للمحاضرة في هذه الجزئية للتدليل على تفاصيها.
لقد اختار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، أن يكون جمهوره الذي سيلقي عليه المحاضرة من الشباب، والطلاب تحديدا، في غالبيته، والهدف هنا واضح، ألا وهو نقل الخلفية التاريخية لهذا الجيل الشاب، والذي هو في مجمله قد يعاني نقص المعرفة الواسعة بتاريخ بلده ورموزه.
وهنا لم يستخدم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، أسلوب السرد العادي للوقائع، وإنما استخدم أسلوبا أكثر تأثيرا وأكثر تشويقا، حيث بدأ أولا بتعريف الشباب بمن هم، وما الخصائص التي يحملونها.
وهنا استخدم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، تعبير البصمة الوراثية، ويقصد أن "ما سأقوله مطبوع في البصمة الوراثية لكم كشباب، ولا يحتاج الوصول إليه أكثر من تفعيل خصائص تلك البصمة".
وهذه خطوة تندرج في معرفة القيم، والأسلوب الأكثر تأثيرا في إيصال الرسالة. لقد أدرك صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، وخاصة في هذه المرحلة التاريخية الحرجة من تاريخ أمتنا العربية والإسلامية، أن لدى شباب دولة الإمارات إحساسا كبيرا بالانتماء لبلدهم ولرموزهم الحضارية، فعمل في المحاضرة على تعزيز هذه الروح، من خلال تعميقها واسترجاع القيم التي تتمثلها.
وهو هنا يخرج مسألة الانتماء من الشكل العاطفي إلى الشكل المبني على الإدراك والتفهم، بحيث تصبح لهذا الانتماء مرتكزات أكبر ومشاعر أقوى.
والذي يعرف أن القيم هي النسيج الأهم في بناء الأمة، يدرك لماذا جاء هذا الاختيار في المحاضرة. حتى الفكرة التي طرحها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، في معنى الأربعين سنة من عمر الاتحاد وربطها بالنضج، لها أيضا دلالاتها الكبيرة.
النقطة الثالثة المرتبطة باستراتيجيات الإعلام في حديث صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، تمثلت في اختيار الوسيلة المراد توصيل الرسالة من خلالها، والتي غالبا ما نقول حولها: ما الوسيلة المناسبة لتوصيل رسالتنا؟ ولقد اختار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هنا المحاضرة كوسيلة اتصال مباشر بالجمهور، ولم يختر، على سبيل المثال، إلقاء كلمة عبر وسائل الإعلام المرئية، أو المسموعة، أو المقروءة، رغم أن المحاضرة، كوسيلة للتواصل لها محاذيرها عندما نضع التخطيط لها، ولا أظن هذه المحاذير كانت غائبة عن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد.
ومن هذه المحاذير، من الشخص الذي سأستخدمه في نقل الرسالة؟ وما مدى قدرته على التوصيل؟ وما المكانة التي يتمتع بها؟ وكيف سيتلقاه الجمهور؟ وأظن أن كثيرا من الإجابات هنا كانت واضحة. فصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد له مكانة كبيرة في الدولة، كون غالبية أهل البلد وسكانها يحملون له القدر الكبير، وربما اللامحدود من المحبة والتقدير، ولأنه أيضا معترف به كرجل دولة من الطراز الأول، ليس فقط عندنا في الإمارات، بل لدى جميع العرب ممن يعرفونه، ومن هنا تأتي قدرته، كناقل، في إيصال الرسالة.
هذا من ناحيته كشخص، ومن ناحية أخرى فإن الشكل الذي اختاره صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد لإلقاء المحاضرة، ينم هو الآخر عن معرفة واسعة بأساليب التأثير، فقد اختار، على سبيل المثال، أن يكون واقفا وماشيا في مستوى الجمهور، ولم يصعد المسرح. والرسالة هنا هي القرب النفسي وعدم التعالي، والحديث المباشر مع الجمهور، وهو الأسلوب الأكثر تأثيرا من غيره في تحقيق مثل تلك الأهداف التي ارادها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد.
واختار أيضا أن يتحدث من الذاكرة، لا أن يقرأ من الورق. وهذا الأسلوب يعتبر هو الأقرب للنفس، حيث، في الغالب، القراءة من الورق تفصل المقدم عن جمهوره (وهذا ما يفسر اختراع جهاز القراءة المتصل بمكان عدسة الكاميرا في التصوير التلفزيوني، حتى يتم الحصول على التأثير المطلوب). أيضا، الأسلوب المتنوع الذي استخدمه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في إيصال رسالته، ينم عن دراية واسعة بطبيعة الجمهور.
فهو، حين اختار أن يقرأ بعض القصائد أثناء المحاضرة وفي ختامها، إنما كان مدركا لما يمكن أن يلعبه هذا الاختيار كمساند في توصيل الرسالة. فهو يعرف أن الجيل الشاب يحب القصيد، والعاطفي منه تحديدا، فكان لابد من استخدام تلك الوسيلة حتى يكون للرسالة المراد الوصول إليها تأثير أكبر، وكان ناجحا هنا أيضا.
بقيت لدينا الجزئية المتعلقة بقياس نجاح وصول الرسالة وتأثيرها. وأظن أن مستوى الرضى والمشاعر التي خرج بها كل من دخل تلك القاعة، لهما أكبر دليل على ذلك النجاح.
ولي إضافة صغيرة هنا، ألا وهي أننا نعرف أن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، لم يتخرج من كلية إعلام، ولم يدرس التخطيط التقليدي في الجامعات، لكنني أزعم أن "بصمته الوراثية" والمتمثلة في الذكاء الحاد، والفراسة القوية التي يتمتع بها، فضلا عن الخبرة القيادية المشهودة، هي التي قادته في اختياراته وفي أساليب إدارته للأمور. وأظن أن هناك دلالة أخرى يحملها أيضا، ألا وهي أن العلم الحقيقي يأتي من "لدن عليم خبير".