ما بعد «نجاح» حركات التغيير العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يواجه بعض الشعوب العربية التي خضعت لربيع التغيير، أوضاعاً مثيرة للجدل، تتراوح ما بين التفاؤل الحذر والتشاؤم المفرط. حركات التغيير أصلاً لم تكن لتنجح، وعلى السطح ربما (!) لولا التدخل الخارجي الفعال والحاسم ضد الأنظمة القائمة.

ذلك ما يُفقد الأنظمة السياسية والإدارية الجديدة، الكثير من استقلالية القرار حيال القضايا العالقة والمطروحة والمستجدة. مثلاً؛ هنالك مسألة تعيين الموظفين القائمين الجدد على الأمور. هذه تخضع لمراقبة وتدخل صارمين، من جهة القوى الخارجية المتربصة.

محاربة الفساد التي قامت حركات التغيير، جزئياً، من أجلها، تواجه وضعاً قاتماً. الفساد أصلاً ناجم عن تخلف عام، مصدره الحالة الاجتماعية والفكرية والثقافية والتعليمية والحضارية السائدة. هذه لا تأتي بين عشية وضحاها، وتحتاج لوضع خطة طويلة الأمد، تشمل مختلف فئات وشرائح المجتمع. على المعنيين وضع خطة شاملة، تأتي على الأجيال المقبلة بالدرجة الأولى، إلى جانب الشروع في وضع آلية مراقبة فعالة لسير الأمور الحالية. خطة تسهم في توطيد أسس العدالة، في توزيع الثروة ومصادر الدخل والمساعدات الخارجية. هذه كانت، ولم تزل، تخضع لحسابات شخصية ومزاجية في ما مضى، من أزلام العهود والعقود الغابرة.

الأوضاع المعيشية في مرحلة ما بعد التغيير، تتميز بزيادة شظف العيش والتقشف. يعود السبب في ذلك إلى تدمير البنية التحتية لأركان الاقتصاد والمجتمع، منذ اندلاع حركات التغيير إلى ما بعد نجاحها. الشروط المسبقة لنجاح التغيير باتت واضحة.

حتى تُعطى حركات التغيير العربية شهادات نجاح، يجب أن تأتي بالتدمير الشامل على قوى الجيش والأمن والاقتصاد. هذا إلى جانب تفكيك الجبهة الداخلية للمجتمع، وتشجيع ظهور حركات مناوئة للثورات. الأخيرة تضم نزعات عرقية وطائفية وسياسية، متمردة على المركز. هذا ما يضع المسؤولين الجدد أمام واقع جديد لا يُحسدون عليه، في سبيل توطيد أسس الإصلاح ومحاربة الفساد والتخلف، ووضع خطط للتقدم وتجاوز الماضي.

التدخل الخارجي موجود وبشكل سلبي واضح. لن تسمح القوى الخارجية، الاستعمارية والإمبريالية التقليدية، بظهور أنظمة ثورية جديدة، أنظمة تقود البلاد والشعوب في اتجاه أوضاع وحالات تضاهي فيها الشعوب نظراءها في الدول المتطورة. بشكل ميداني، تود القوى الخارجية لو تُبقي على الأوضاع، بحيث تكون الدول المتحررة من الأنظمة المستبدة مثل أسواق للسلع من الخارج. تود لو تتدخل شركاتها الرأسمالية في كل صغيرة وكبيرة، في مجتمعات ما بعد التغيير.

أمر أصبح غاية في السهولة، إذ تواجه الشعوب المتحررة أوضاعاً معيشية صعبة؛ لا تزال تبحث عن رغيف الخبز المغموس بالذل. لا تزال تنتظر مساعدات خارجية تأتي بشروط قاسية، بل مجحفة؛ منها ما هو قصير الأجل ومنها ما هو استراتيجي يواكب الأجيال المقبلة.

لا تسمح القوى الخارجية، المتمثلة في حلف الأطلسي، بنشوء منظومة عربية جديدة، تعيد ربط الأوصال المقطّعة بين الدول والشعوب والحكومات. تحت عناوين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان الجديدة، من المتوقع أن نرى جسماً عربياً جديداً، هلامياً مائعاً مخترَقاً، يتسم بالكثير من المتلازمات المرَضية، التي يحذّر الكثير من المثقفين من انتشارها.

الجيل العربي الجديد يواجه هجمة ثقافية سياسية اجتماعية شرسة، تأتي على الثوابت والأصول والمحرمات. هذه تمس الأيديولوجيات والمعتقدات والتاريخ والحاضر والشخصية العربية؛ من الأساس إلى المستقبليْن القريب والبعيد.

الصورة القاتمة المرسومة هنا، تأتي بسبب عدم اتباع خطة حكيمة وعقلانية وواقعية لمعالجة الأمور. سارت الأمور في اتجاه النمط الثوري الكلاسيكي. هُيّئ للقائمين على شؤون حركات التغيير والمنفّذين لها، أنهم سائرون على طرق مشابهة للثورات الفرنسية والبلشفية والصينية وغيرها.

وضعوا رؤوسهم في الرمال أثناء الثورات، وظنوا أنهم يقتحمون قلاع الباستيل وقصور القياصرة وحصون الأباطرة المخلدين. من أجل تحقيق خيالهم الكلاسيكي، قاموا حتى بارتكاب جرائم حرب، يمكن أن تُدير عليهم الدوائر في المقبل من المستقبل. سيصبحون أهدافاً لحركات تغيير تسير في حلقات متكررة ودموية؛ أنت تثور عليَّ الآن، وأنا سأثور عليك فيما بعد.

هذا ما يؤدي إلى إبقاء الشعوب والكيانات العربية، في حالات من عدم الاستقرار والضياع والتبعية وفقدان الاستقلال والتلاحم الداخلي المصيري.

 

Email