يلوح التغيير في الأفق، من خلال الثورات والانتخابات وغيرها من الوسائل، على امتداد رقعة واسعة من العالم. وهناك اثنتان من أبرز حالات التعاقب السلمي على السلطة تحدثان في أهم دولتين في العالم، وهما الولايات المتحدة والصين. خلال الأشهر الـ13 المقبلة، سوف تنتخب الديمقراطية الانتخابية ذات الحزبين في أميركا، رئيساً وبرلمانا (كونغرس) جديدين، وسوف تنتج الصين ذات الحزب الواحد قيادة جديدة أيضاً. وفي ظل عدد لا يحصى من المشكلات التي تبدو مستعصية على الحلّ، والتي تواجه المجتمعات البشرية في كل مكان، يخضع ما هو "أفضل" نظام للحكم، مرة أخرى للنقاش المحتدم.
ويخوض المعترك مفكرون كبار أمثال فرانسيس فوكوياما. ففي كتابه الضخم الجديد بعنوان "أصول النظام السياسي"، وما يتصل به من كتابات، يشير فوكوياما إلى أن النجاح الواضح لنظام الحزب الواحد في الصين، لا يحلّ مشكلة "الإمبراطور السيئ"، المتمثلة في كيف تجعل الإمبراطور يرحل عندما يتحول إلى شخصية "سيئة"؟ وقد اتخذ أحد المعلقين الصحافيين منطقاً بعيداً، إلى حد القول إنه رغم الدعم الشعبي الواسع (بحسب استطلاعات الرأي) الذي يتمتع به الحزب الشيوعي الصيني، الا ان الخلل المدمّر في هذا النظام، هو أنه ليست هناك طريقة "لحث" الحزب على التنازل عن السلطة في حال فقد دعم الشعب.
لكن هذا الاقتراح معيب، فهناك قول صيني مأثور مفاده: "الناس كالمياه، والحاكم هو سفينة في تلك المياه، فالمياه يمكن أن تحمل السفينة، ويمكنها أن تقلب السفينة". واليوم، حلّت الدول القومية محلّ الإمبراطوريات والممالك. وفي هذا التشبيه، لايزال الماء هو الناس.
أما السفينة، رغم ذلك، فلم تعد مجرد الإمبراطور وعائلته، وإنما النظام السياسي الأكبر حجماً والأكثر تطورا، يشكّل الدولة القومية الحديثة. إن نظام حكم الحزب الواحد في الصين متجذر في دستوره، تماما كما هي الحال بالنسبة للديمقراطية الانتخابية لأميركا في دستورها.
الدعم الساحق للشعب الصيني لقيادة الحزب، على النحو المبين في استطلاعات الرأي العام المستقلة بشكل مستمر، يأتي ضمن سياق دستور الحزب الواحد السياسي للبلاد، وبالتالي يمكن أن يفسر فقط على أنه دعم لهذا النظام الأساسي للحكم. ودعم الأميركيين للحزب الجمهوري أو الديمقراطي يتأرجح صعوداً وهبوطاً، لكن لا يرتبط بالضرورة بالتأييد الشعبي للنظام الأساسي للديمقراطية الانتخابية. وفي الوقت الحالي، فإن شعبي البلدين يدعمان الدساتير السياسية لكل منهما.
يقول بعضهم إنه في الحالة الافتراضية التي يخسر فيها الحزب التأييد الشعبي، فإنه ينبغي أن يتنحى عن السلطة، وعندما يتم ضمان ذلك يمكن تقديم الدعم المشروع من جانب الشعب للحزب. مثل هذه الحجة، إذا تم الدفع بها إلى نهايتها المنطقية، فإنها تعني أنه إذا كان النظام الانتخابي الحالي، في الحالة الافتراضية، في أميركا فقد تأييد الشعب، فإن الولايات المتحدة يجب أن تتخلص من الانتخابات، وتلغي قانون الحقوق، وتعمل على تثبيت نظام حكم سلطوي أو نظام آخر. يعتبر ذلك، بالطبع، أمراً سخيفاً.
يجادل الكثيرون بأن الأنظمة الديمقراطية الغربية متفوقة بسبب تناوب الأحزاب السياسية، من خلال التصويت الذي يسمح بالمرونة اللازمة للحكومة لإجراء تغييرات في سياستها التي تلبي مطالب أزمنة متغيرة، وبالتالي سوف تنعكس على نحو أفضل بالنسبة للشعب. وفي المقابل، يتسم نظام الحزب الواحد في الصين بالجمود، واحتكار الحزب للسلطة فيفصل الحزب عن الشعب.
إن أبسط ممارسة في الاجتهاد الفكري، تبيّن أن هذه الحجة منافية للعقل. فمنذ قيام الحزب بتأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 تحت قيادة حزب سياسي واحد، شملت التغييرات في السياسات الحكومية والبيئة السياسية الصينية، أوسع نطاق ممكن. انطلاقاً مما يسمى بالتحالف "الديمقراطي الجديد" في البداية، إلى الإصلاح الدراماتيكي للأراضي في أوائل عقد الخمسينات، ومن القفزة الكبرى إلى شبه الخصخصة للأراضي الزراعية في أوائل عقد الستينات، ومن الثورة الثقافية إلى إصلاح السوق في عهد "دينغ شياو بينغ"، وإعادة تنظيم "جيانغ زيمين" للحزب من خلال كتابه "نظرية التمثيلات الثلاثة"، يصعب تقريباً تمييز السياسة الداخلية الصينية من فترة إلى أخرى.
وفي مجال السياسة الخارجية، انتقلت الصين من تحالف وثيق مع الاتحاد السوفييتي السابق في عقد الخمسينات، إلى تحالف ظاهري مع الولايات المتحدة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، لاحتواء الاتحاد السوفييتي. واليوم، فإن سعيها للحصول على مسار مستقل في عالم متعدد الأقطاب على نحو متزايد، هو أمر متميز بين دول العالم. فقد انتقلت البلاد من حالتها المحطمة إلى الصين التي نعرفها اليوم، والوقائع تثبت قدرة غير عادية يتحلى بها نظام الحزب الواحد، من أجل التغيير والتصحيح الذاتي.
من ناحية أخرى، تشير سجلات النظم الانتخابية في جميع أنحاء العالم، إلى أن تداول السلطة بين الأحزاب من خلال الانتخابات، قد لا يوفر المرونة اللازمة أو التصحيح الذاتي. وفي الولايات المتحدة، ربما أفرزت الانتخابات رؤساء وأغلبيات جديدة في الكونغرس، لكن لا يبدو أنها قدمت الكثير للتعامل مع التحديات التي تواجهها أميركا على المدى الطويل.
وفي أوروبا، تخسر الحكومات وتكسب بانتظام، لكن لا توجد انتخابات أفرزت الحد الأدنى من التصحيحات المطلوبة لمعالجة محنتهم الضخمة. وفي اليابان التي تشهد رئيس وزراء كل سنة، فقد فشلت الانتخابات والتناوبات الحزبية في إخراج البلاد من ركود امتد لعشرين عاما.
وربما كان هذا يفسر سبب أن الحكومات التي تجيء عبر انتخابات، عادة ما تتراجع بشكل كبير دون نسبة الـ50% من التأييد في بلدانها، بينما احتفظت الصين ذات حكومة الحزب الواحد، بمعدلات موافقة فوق 80% على مدى عقود. خلال هذا الموسم من التغيير السياسي في جميع أنحاء العالم، وفي الصين وفي الغرب وفي اليابان والعالم العربي، هل تحمل المياه السفينة؟ وهل تقلب المياه السفينة؟ وأي نوع من السفن لا تريد المياه حقا أن تحمله؟