تركيا وسياسة تصفير المشكلات مع دول الجوار

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أحد يستطيع التقليل من أهمية الدور الذي تقوم به تركيا في رسم معالم الشرق الأوسط الجديد، الذي يشغل العالم العربي جله. ولا أحد، في الوقت نفسه، يستطيع التقليل من حجم وأهمية الصعوبات التي تعترض الطموحات التركية، في ضوء وجود إيران، المنافس القوي والطموح الذي يسعى هو الآخر للعب هذا الدور. المسرح، أو الملعب، مهيأ للدولتين، طالما كان الحضور العربي فيه ضئيلاً أو منعدماً.

الدولتان تحملان أجندة إسلامية بمنظورين مختلفين، وتاريخ الصراع الدموي بينهما شهدته الأراضي العراقية أكثر مما شهده غيرها في الماضي، حين كانتا إمبراطوريتين عثمانية وفارسية.

المدخل الإيراني لتحقيق أجندته في المنطقة، هو الانفتاح على بعض دولها وانتهاج سياسة المحاور، أما المدخل التركي فهو الانفتاح على جميع دولها، في سياسة جديدة بدأت تركيا بانتهاجها مع استلام أحمد داوود أوغلو حقيبة الخارجية، مقدمة مبادرات ملموسة تحت شعار "تقليص المشكلات مع دول الجوار إلى الصفر".

والحقيقة أن السياسة الخارجية التركية، قد جاءت لتنفيذ استراتيجية عودة تركيا إلى الشرق الأوسط ، الذي غادرته منذ سقوط الدولة العثمانية في العقد الثاني من القرن المنصرم. هذه العودة تطلبت قيامها بتقييم كافة عوامل التوازنات المعقدة في هذه المنطقة القلقة، في ضوء علاقاتها الخارجية مع الغرب.

وخاصة مع الولايات المتحدة. ومع أنها وجدت نفسها في مواقف تتعارض مع رغبات الإدارة الأميركية في ما يتعلق بالموقف من إيران وسوريا، إلا أنها مضت قدماً نحو بناء علاقات تقارب معهما، رغم إدراكها لما يترتب على المخاطرة التي أقدمت عليها من تداعيات على تحالفاتها مع الغرب، خاصة مستقبل عضويتها في حلف الناتو وفرصها لعضوية الاتحاد الأوروبي، تلك التحالفات التي حرصت على إدامتها منذ الحرب العالمية الثانية.

ثمة أمر آخر جدير بالإشارة إليه، حدا بتركيا لانتهاج هذه السياسة الخارجية، وهو ما يتعلق بأمنها القومي، فالمناطق المتاخمة لحدودها مع دول الجوار الجنوبية والشرقية (سوريا والعراق وإيران)، يقطنها الأكراد الذين لا يخفون تعاطفهم مع توجهات حزب العمال الكردستاني التركي، الذي أصبح مصدر تهديد لأمن الدولة التركية منذ بدأ نشاطاته المسلحة ضد مؤسساتها، مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، إذ لا شك أن مقاتلي هذا الحزب يجدون في أراضي هذه الدول بعداً أمنياً ولوجستياً لنشاطاتهم، يتطلب الاحتياط لمنعها.

وهكذا أدخلت تركيا شركاء إقليميين لمعادلات توازن جديدة في المنطقة، لتلبية متطلبات أمنها القومي. ومع أن سياسة الانفتاح التركي قد أنجزت مع حكومات الدول المجاورة ودول عربية أخرى، إلا أن الموقف التركي قد انحاز بوضوح ضد هذه الحكومات حين بدأ ما سمي الربيع العربي، وتجلى بشكل خاص في موقفها المتشدد من سوريا منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية فيها، في مؤشر قوي على أن سياسة الانفتاح على دول الجوار قد حان وقت مغيبها.

وإذا كانت تركيا من جانبها قد صعدت الموقف ضد سوريا، لتكسر الحاجز الذي وضعته بنفسها في علاقاتها مع دول الجوار بشكل مباشر، فإنها صنعت الشيء نفسه، بطريقة غير مباشرة، مع إيران، حين وافقت على نشر نظام صاروخي للإنذار المبكر تابع لحلف الناتو على أراضيها، مما تسبب في رد فعل إيراني مباشر وتوتر في العلاقات بين الدولتين.

حيث عبرت طهران في سبتمبر المنصرم عن استيائها من الموقف التركي، معتبرة إياه مشاركة في مؤامرة أميركية لحماية إسرائيل من أي هجوم صاروخي إيراني مضاد، في حالة قيام إسرائيل بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية.

وقد تصاعدت حدة الخلاف بينهما مؤخراً، في سياق الأجواء التي كثرت فيها الأحاديث والتحليلات عن اقتراب موعد الضربة الإسرائيلية للمواقع النووية الإيرانية. فقد أدلى مسؤول عسكري إيراني كبير، في السادس والعشرين من الشهر المنصرم، بتصريح قال فيه "إن إيران قد تستهدف منشآت في تركيا تمثل جزءاً من درع صاروخية لحلف شمال الأطلسي، في حالة نشوب أي صراع في المستقبل".

وهو تصعيد كبير ضد تركيا، التي تشهد علاقاتها مع إيران في الشهور الأخيرة تدهوراً واضحاً. ولم يتعدّ رد الفعل التركي تصريح الخارجية التركية، بأن أنقرة تربط بين هذا التهديد وموقفها الحازم من قمع الانتفاضة الشعبية في سوريا، وهي محاولة للضغط على تركيا.

وهكذا انقلبت سياسة تصفير المشكلات مع دول الجوار إلى وضع معاكس تماماً، فلم يعد الحوار بين دمشق وأنقرة حوار أصدقاء، بل حوار أعداء، فتركيا تطالب الرئيس السوري ونظامه بالرحيل، ولا تخلو تصريحات بعض مسؤوليها من تهديد بالتدخل من أجل تحقيق ذلك. وإيران من جانبها تهدد باستهداف مواقع داخل الأراضي التركية.

في ضوء هذا الفشل، بدأت حكومة أردوغان تواجه تداعيات ذلك، فعلى المحور العسكري زادت احتمالات عودة نشاطات حزب العمال الكردستاني. والعملية الأخيرة التي أعلن هذا الحزب مسؤوليته عنها.

والتي أودت بحياة 24 جندياً تركياً في التاسع عشر من أكتوبر المنصرم، في ثاني أكبر حصيلة ضحايا للجيش التركي منذ بدء حزب العمال الكردستاني نشاطه المسلح عام 1984 للمطالبة باستقلال المنطقة ذات الأغلبية الكردية في جنوب شرق البلاد، من الصعب رؤيتها بمعزل عن تداعيات الموقف التركي مع سوريا وإيران.

أما على المحور السياسي، فقد وجدت المعارضة التركية التي تراجع وانحسر دورها كثيراً، في ذلك فرصة سانحة للخروج من عزلتها، فبدأت بتصعيد النقد لأردوغان وحكومته.

فقد شن زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، كمال قليجدار أوغلو، هجوماً عنيفاً في أغسطس المنصرم على السياسة الخارجية التركية، منتقداً التصريحات شديدة اللهجة التي يدلي بها أردوغان، مشدداً على أن سياسة "تصفير المشكلات" التي حملها وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو قد فشلت، لا سيما مع سوريا. وأكد على أن "السياسة الخارجية تتطلب ألا تكون تركيا دمية للقوى المهيمنة".

وأنه "ضد أن يذهب داوود أوغلو إلى دمشق لحمل رسائل الولايات المتحدة". كما وقف بعض أحزاب المعارضة ضد استضافة الدرع الصاروخية في أراضيها، من منطلق أنها تسبب بعض المتاعب لتركيا مع دول الجوار.

من الصعب توقع ما الذي ستتمخض عنه الأوضاع غير المستقرة في المنطقة، فالتنافس على موطئ قدم أوسع فيها سيقودها إلى المزيد من عدم الاستقرار، إن لم يدفعها نحو ما هو أبعد من ذلك.

 

Email