واعظ وبيده رشاش

ت + ت - الحجم الطبيعي

شاهدت منذ أيام فيلماً غريباً بعض الشيء، اسمه (Machine Gun Preacher)، وسأترجمه إلى "واعظ وبيده رشاش"، وقد كنت ظننته في البداية مبنياً على قصة خيالية مختلقة، وإذا بي أفاجأ في نهايته بأنه قائم على قصة حقيقية. بعدما خرجت من الفيلم بحثت عن القصة في الانترنت، فوجدت كثيراً من المصادر تتحدث عنها، بالإضافة إلى موقع رسمي عن بطل الحكاية.

تدور الحكاية "الحقيقية" حول "سام تشيلدرز"، وهو رجل عصابات سكير ومدمن على تعاطي المخدرات، قضى سنوات طويلة من عمره في حياة الإجرام وفي السجون، ليفيق في لحظة من اللحظات بعدما ظلت تطارده عبارة لأبيه قالها له يوما، حينما رآه راتعا في ذاك الفساد الكبير وكاد ييأس منه: "يا بني، ستموت مقتولا في يوم من الأيام". وشيئا فشيئا يبدأ سام بالمواظبة على حضور الكنيسة بتشجيع من زوجته، والاهتمام بشؤون عائلته أكثر، والحرص على الابتعاد عمن كان يرافقهم من السيئين، وكذلك التوقف عما كان يفعله، بعدما وجد عملا جيدا في مجال البناء، تطور إلى أن يؤسس شركة صغيرة خاصة به في ذات المجال.

ذات مرة، أخبره القس المسؤول عن الكنيسة التي يحضرها، عن عمل تطوعي ستسافر من خلاله بعثة لمساعدة المتضررين من الحرب في جنوب السودان (في العام 1998)، ودعاه لمرافقتهم، ففعل، لتحمل له تلك الرحلة في طياتها نقطة التغيير الأقصى في كل حياته، وذلك بعدما شاهد جثة طفل نازفة تقطعت أوصالها بفعل انفجار لغم. تكررت زيارات سام بعد تلك الحادثة إلى جنوب السودان، فقرر أن يبني ميتماً ليؤوي فيه الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم في تلك الحرب المستعرة، وعاد إلى ولايته "بنسلفانيا" ليبيع شركته الصغيرة التي كان أسسها للعمل في مجال البناء، ويأخذ المال لينطلق مجددا نحو جنوب السودان، لينفذ حلمه ببناء ذلك الميتم بتشجيع من زوجته. ومن مفارقات المسألة أن سام اضطر أن يقود قوة مسلحة صغيرة لحماية ذلك الميتم، تطورت مع الوقت للقيام ببعض العمليات العسكرية المتفرقة، للإغارة على القرى المحيطة وتخليص الأطفال من أتون الصراع الدائر وإلحاقهم بالميتم.

وعلى مدى ثلاثة عشر عاما، قضاها في مجاهل جنوب السودان، استطاع أن يؤوي ويطعم أكثر من ألف طفل يتيم. ولا يزال سام حتى يومنا هذا يعيش في بنسلفانيا هو وزوجته وابنته، ولا يزال كذلك ملتزما بذات الحلم القديم، بأن يعمل كل ما في وسعه لمساعدة أولئك الأطفال اليتامى.

قصة ملهمة حقاً، تتفوق عليها في واقعنا المعاصر قصة الدكتور عبد الرحمن السميط، الذي نذر عمره كله لأجل اللجنة الخيرية التي أسسها لتعمل عبر سنوات طويلة، وحتى هذه الساعة، في بلدان كثيرة في إفريقيا، للإغاثة والدعوة. والدكتور السميط أشهر من أن يعرَّف، فهو نار على علم. هو الطبيب الكويتي الذي رمى مباهج الدنيا التي نعرفها وراء ظهره، وأقبل على هذا العمل المجهد في تلك البقاع الصعبة من هذا العالم، نسأل الله أن يجزل له الأجر والمثوبة.

بطبيعة الحال، ومهما كانت الجهود جبارة وكبيرة، ستظل هناك الآلاف المؤلفة ممن يحتاجون إلى الإغاثة في مختلف بقاع العالم، التي ستبقى تعاني وتئن تحت وطأة الكوارث الطبيعية والحروب والفقر، لكن هذا لا يجب أن يجعل أحدا يتخاذل عن القيام بدوره تجاه هؤلاء، فهم، وقبل أي شيء، يظلون إخوة لنا في الإنسانية، بغض النظر عن جنسهم أو لونهم أو دينهم.

ليس أعظم من أن يكون للإنسان هدف سامٍ ونبيل، يقضي حياته لأجله، حتى ولو رآه البعض قطرة ستضيع في بحر المشكلة، لأن الإنسان عندما يؤدي دوره، ويقوم بعمله، ولو تجاه إنقاذ شخص واحد، فإنه يكون كمن أنقذ الناس جميعا، وقد قال الله تعالى في سورة المائدة: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا).

ورائعة كذلك هي تلك القصة التي كنت قرأتها في كثير من كتب التطوير والتنمية، والتي تروي أن رجلاً كان يتريض على الشاطئ، فأبصر طفلاً في البعيد، يسير ويلتقط أشياء من على الأرض ويرميها في البحر، فاقترب منه، وإذا بالطفل يلتقط حيوان نجم البحر الذي جرفه المد وألقاه على الشاطئ، ليلقيه مجدداً في البحر، فقال له الرجل: ماذا تفعل؟ أجاب الطفل: أعيد نجم البحر إلى البحر حتى لا يموت جفافاً تحت الشمس. فقال له الرجل: ولكن لن يمكنك أن تغير شيئاً كبيراً، وأشار بيده إلى امتداد الشاطئ الذي كان ممتلئاً على مد النظر بالمئات من نجم البحر التي كان قد جرفها المد. نظر إليه الطفل وابتسم، وهو يلتقط نجم بحر آخر ويلقيه في البحر، قائلًا: ولكنني على الأقل غيرت شيئا في حياة هذا!

ليقم كل منا بدوره، يا سادتي، ولو كان صغيراً، فلعل الله يجري الخير على يديه، وكما قال النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحداً خير لك من حمر النعم"، وأبواب الهداية وأصنافها واسعة وكثيرة لو كنتم تعلمون.

 

Email