الكويت إلى أين؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

يجمع المراقبون المحليون والمهتمون بالشأن العام، وأيضاً المتابعون عن بعد، على أن الكويت تمر بواحدة من أصعب مراحلها التاريخية، فنظامها السياسي بات يعاني وطأة الضغوطات الداخلية، المتمثلة في ظهور قوى اجتماعية جديدة أخذت تحمل لواء "المعارضة"، وأوضاع ملتهبة في الجوار العربي، تجد لها صدى واسعاً في الداخل، وتعمل كمحفز لبعض قواها السياسية التي تحاول أن تستفيد من "زخم الشارع العربي" وتوظفها سياسياً لصالحها.

ولعل الفارق الوحيد بين ما يجري في الجوار العربي وما يجري في الداخل، هو ما تتمتع به الكويت من نظام ديمقراطي وحريات، بعكس تلك الأنظمة التي أطاحت بها جماهيرها، سواء في تونس أو مصر أو ليبيا، أو تلك التي يجري الصراع فيها في الشوارع كسوريا واليمن وغيرهما. ففي تلك الأنظمة إما أنها كانت بعيدة (أو هي بعيدة بالنسبة للأنظمة التي هي في الرمق الأخير) عن الديمقراطية، أو أن ديمقراطيتها كانت (أو لا تزال) ديمقراطية شكلية، بحيث لم تشهد تلك البلاد انتخابات نزيهة، ولم تجرب تدويراً للسلطة بشكل حقيقي.

أما الكويت، فإنها تنعم بالديمقراطية وبحريات، منذ بداية استقلالها قبل نصف قرن. وإذا كانت تلك الحريات قد تمثلت في البداية "بحرية مقيدة للصحافة"، وبالسماح لأحاديث "الدواوين" ونقاشاتها أن تتناول جميع الموضوعات تقريباً، فضلاً عن الانتخابات الدورية ودعايات المرشحين في حملاتهم، ومداخلات النواب في مجلس الأمة، فإن الحريات التي تنعم بها صحافتها وفضائياتها حالياً ـ حيث التطرق لجميع الموضوعات، ومنها الأشد حساسية ـ فضلاً عن علو حدة نبرة أعضاء المجلس، هي علامة بارزة في هذه المرحلة.

ثم إن الفارق بين جماهير الربيع العربي وبين ما هو عندنا، أن المواطن الكويتي ـ بعكس أخيه العربي في تلك البلدان ـ ينعم بحياة رغدة وكريمة كفلها له دستور الدولة، وهي ترعاه من المهد إلى اللحد، ويتمثل ذلك بالتوظيف، والتعليم، والرعاية الصحية والاجتماعية، والتموين وغيرها، بل ـ وهذه من المبكيات المضحكات ـ إن بلدية الكويت، وهي المسؤولة عن إدارة المقابر، توزع الأكفان مجاناً لمن يتوفاهم الله! وهذه ليست بسبب وفرة إنتاجها من النفط وقلة عدد سكانها، إذ اننا شاهدنا الشعب الليبي، الذي تقبع بلاده على بحر من النفط، كيف كان يعيش في ظل القذافي. إن تلك الحياة الكريمة قد بدأت منذ أواسط الخمسينات، حيث تبنت الكويت "نظام دولة الرفاه"، ثم تعزز ذلك بمواد الدستور، المعبرة عن تطلعات المجتمع الناهض آنئذ، في بناء دولة حديثة ينعم فيها المواطن بخيرات بلده.

وإذا كانت الكويت تمر بفترة عصيبة من تاريخها هذه الأيام، فهي ليست الفترة العصيبة الوحيدة، فقد مرت بظروف أصعب كثيراً، لعل أصعبها وأحلكها قاطبة كان في الثاني من أغسطس في العام 1990، حينما غزت قوات صدام حسين أراضيها "وأخرجتها من الجغرافيا لتدخلها في التاريخ"، كما قيل. بل يمكن القول إن نظام الكويت السياسي الحديث، وتبنيها للديمقراطية، قد وُلد في رحم ظروف عصيبة عاشتها في اليوم الأول من استقلالها، مما جعل "أهل الحل والعقد" فيها، وعلى رأسهم الشيخ عبدالله السالم رحمه الله، يتنادون لتطوير "نظام الشورى" الذي كان قائماً منذ نشأة الكويت في أوائل القرن الثامن عشر، و"مأسسة" العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم، بدستور تم وضعه من قبل ممثلي الأمة المنتخبين انتخاباً حراً.

ولا شك أن الشعب الكويتي قادر على تجاوز هذه "المحنة" التي يعيش في ظلها منذ فترة، والمتمثلة في الشد والجذب الحاصلين بين السلطة التشريعية، أو لنقل بين بعض عناصرها، وبين الحكومة، لو تم تحكيم العقل واستبعدت المصالح الفئوية والشخصية، ولو خفت حدة الصراعات بين "الأقطاب الكبار". فالحلول كثيرة ويمكن طرحها للنقاش العام والأخذ بأفضلها، والتي تحقق مصالح الجميع، والتي تطور نظامنا الديمقراطي بما ينسجم مع ما شهده الداخل من تغير اجتماعي في نصف قرن، وما تشهده الساحة العربية من حراك سياسي.

والمطروح في الساحة من حلول، ربما يتركز على اثنين: فإما أن تتشكل حكومة قوية تحارب الفساد وتضع برنامجاً للتنمية وللتطوير، حيث إن ثمة إجماعاً وطنياً على أن الكويت قد تخلفت عن شقيقاتها في هذا الإطار، أو أن تتشكل حكومة من الكتلة البرلمانية الأكبر، بحيث تتحمل هي مسؤولية القرارات التي تتخذها، على اعتبار أنها تمثل أكبر شريحة من المواطنين.

وبين هذا الخيار وذاك، يجري نقاش حيوي في المجتمع، لا يعكر صفوه إلا من يريدون ركوب الموجة والبروز على حساب مصالح الوطن، ويقومون بأفعال غريبة عن المجتمع وعن تاريخه السياسي، من قبيل "احتلال مجلس الأمة"، رمز الديمقراطية الكويتية، وهو عمل استنكره الجميع، وعدوه خروجاً على أبسط قواعد الحياة الديمقراطية التي تنعم بها الكويت.

إن الكويت تسير في طريق تطوير نظامها السياسي، رائدها في ذلك إرثها الديمقراطي العريق.

 

Email