دروس من تجربة إسبانيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين أقول إنني عدت للتو من بلد شهدت فيه احتجاجات كبيرة تنادي بالعدالة الاقتصادية، فإن ذلك لا يخبركم بالكثير عن المكان الذي كنت فيه، وإنما يقلل الاحتمالات إلى 15 أو 20 بلداً فحسب. في الواقع، كنت في إسبانيا خلال المظاهرة العالمية وغير محكمة التنسيق التي أجريت يوم 15 أكتوبر الماضي.

وقد اندلعت الاحتجاجات في أكثر من 80 بلدا في ذلك اليوم، مع توجه نصف مليون محتج إلى الشوارع في مدريد للتعبير عن إحباطهم حيال نظام سياسي خذل الشعب الإسباني، بالطريقة ذاتها التي يعبر الــ «لوس انديغنادوز» (والتي تعني بالإسبانية «الغاضبون») الأميركيون عن غضبهم وإحباطهم حيال النظام الذي خذل «99%» من الشعب الأميركي.

 وأضحت الاحتجاجات الإسبانية بمثابة جد للحركات الاحتجاجية التي تجتاح معظم الديمقراطيات الغربية، وقد تمكننا من إلقاء نظرة على مستقبل ما سيحدث على الجانب الأميركي من المحيط الأطلسي. وهناك ثلاثة أمور على وجه الخصوص تتبادر إلى ذهني عندما أستحضر الأسبوع الذي أمضيته في إسبانيا وأحاول تطبيقه على ظاهرة «احتلوا وول ستريت» التي تتكشف في أميركا.

الأمر الأول هو المفارقة السياسية المتأصلة في الاحتجاجات الأوروبية. ففي إسبانيا، يتوقع على نطاق واسع أن تؤدي حالة الاستياء إلى فوز ساحق للمرشح المحافظ لمنصب رئيس الوزراء ماريانو راخوي من الحزب الشعبي على الفريدو بيريز روبالكابا من الحزب الاشتراكي، وذلك في الانتخابات التي ستجرى يوم 20 نوفمبر المقبل.

وفي الوقت نفسه في فرنسا، فإنه من المتوقع أن تشهد الانتخابات التي ستجرى في أبريل المقبل هزيمة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي من حزب «الاتحاد من اجل حركة شعبية» (الحزب المحافظ الحاكم) أمام مرشح الحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند. ويدل هذا على أن التنفيس عن الغضب ليس موجها ضد أي حزب معين أو فلسفة سياسية معينة، وإنما ضد الوضع الراهن.

وبينما كنت في إسبانيا، التي يصل معدل البطالة فيها إلى 21%، أمضيت ساعة مع كل من المرشحين الرئيسيين لمنصب رئيس الوزراء. وكانت هناك، بطبيعة الحال، اختلافات عدة بين موقفيهما، ولكن كلاً منهما كان يسمع المحتجين بوضوح تام.

قال لي روبالكابا: «بعد ثلاث سنوات من الركود، فإن الكلمة الوحيدة التي تشغل بال الشعب الإسباني هي التغيير». ولا يحاول روبالكابا أن يغفل عمداً عما يؤجج غضب المحتجين. إذ قال: «إن الأشخاص الذين يحتجون في الخارج ليسوا ضد النظام. وإنما ينتظرون حلولاً من السياسة ومن النظام، وهم لم يحصلوا عليها حتى الآن».

من جانبه، قدم ماريانو راخوي نفسه بشغف على أنه أداة لتوصيل الرغبة واسعة النطاق في التغيير. وقد قال لي: «إن العديد من الشباب لا يرون مستقبلاً لأنفسهم»، مشيرا إلى أنه للمرة الأولى، فإن الشباب في إسبانيا، كما هي الحال في الولايات المتحدة، لا يتوقعون أن يحققوا في حياتهم ما حققه آباؤهم.

والأمر الثاني الذي تبادر إلى ذهني هو مدى تمحور تلك الاحتجاجات حول الأسرة. وبصرف النظر عن بدايتها، فهي الآن تمثل بحق حركة خاصة بالطبقة المتوسطة. ولكن عندما ألقيت نظرة على تغطية وسائل الإعلام لاحتجاجات الخامس عشر من أكتوبر.

 

فقد وجدت أنه عوضاً عن الألوف من العائلات والأطفال والمتقاعدين الذين ساروا في الشوارع، فإن ما هيمن على موجات الأثير كان مشهد السيارات التي أضرمت فيها النار خلال الاحتجاج الذي شهدته روما، والذي سيطرت عليه زمرة من الفوضويين الملثمين. ومثلما أن الحلول للمشكلات التي تواجه أوروبا وأميركا لن تكون موجودة في الأساليب السياسية التقليدية، فإن حقيقة ما يحدث لن تكون موجودة في التغطية الإعلامية التقليدية كذلك.

وعلى سبيل المثال، فقد عمد غريغ سارجنت وعلى نحو مقنع إلى تحدي الحكمة التقليدية القائلة إن هناك «صدعاً ثقافياً» لا يمكن تجسيره بين الأميركيين البيض من ذوي الياقات الزرقاء والمحتجين. وأشار إلى استطلاع أخير للرأي أجرته مجلة «ناشونال جورنال»، وأظهر أن نسبة البيض غير الجامعيين الذين يتفقون مع محتجي «احتلوا وول ستريت» كانت 56%.

في حين وصلت نسبة أولئك الذين خالفوهم الرأي إلى أكثر بقليل من 30% فقط. وعلى نحو مماثل، فإن كيث بويكين، وهو مساهم في محطة «سي إن بي سي» ومساعد سابق في البيت الأبيض، بعد زيارته لــ «زوكوتي بارك»، خلص إلى القول: «إن كل ما أخبرتني به وسائل الإعلام تقريباً فيما يخص الاحتجاج لم يكن صحيحاً».

والأمر الثالث الذي خطر ببالي فيما يتعلق بالاحتجاجات، في كل من إسبانيا وأميركا، هو أنها تهدف إلى تحقيق أكثر من مجرد أهداف سياسية واقتصادية. إنها أكبر من ذلك. فهي تهدف إلى تغيير المجتمع المدني، وإلى إنشاء علاقة جديدة، ليس بين الشعب والحكومة فحسب، بل بين الناس أنفسهم كذلك.

وبالطبع، فإن هناك تقليداً عريقاً في تعزيز المجتمع المدني في أميركا، ولكن الأمر ليس كذلك في إسبانيا.وكما أخبرني روبالكابا، فإن فكرة المجتمع المدني الناشط لم تتم رعايتها تاريخياً. وقال: «إن المجتمع المدني الإسباني هو مجتمع سلبي». وقد أقر كلا المرشحين بالحاجة إلى تعزيز المجتمع المدني.

كما أقرا بالحاجة إلى تعزيز روح المبادرة والابتكار. وفي الواقع، فقد كان روبالكابا، المرشح الاشتراكي، هو من قال متحسراً: «من المفترض أن يكون القرن المقبل قرننا، إذ إن إسبانيا لديها قدر كبير من الابتكار والإبداع والذكاء، ولكن المجازفة ليست في جيناتنا الوراثية».

وينظر روبالكابا إلى تغذية روح المبادرة، لا سيما في صفوف الشباب، على أنها مفتاح التحول في إسبانيا، إذ قال: «إن الأمر يتعلق بإتاحة الفرصة للناس ليتمكنوا من تحقيق أقصى ما بوسعهم». وإذا كنا ننوي الخروج من هذه الورطة، التي تعاني منها أميركا وإسبانيا واليونان وبقية الدول، فإننا سنحتاج إلى مكونين أساسيين، وهما تعاطف يغذيه مجتمع مدني قوي، وابتكار تغذيه روح المبادرة بالمشروعات.

إن إنشاء نظام سياسي يكافئ هاتين الصفتين الأساسيتين، بدلا من كونه تحت رحمة جماعات الضغط والجهات المانحة للمبالغ المالية الطائلة، قد يتطلب تظاهر المواطنين في الشوارع.

 

Email