تشعر في هذه الأيام المباركة، أنك أمام حالة فريدة مشحونة بالمشاعر التي تتمزق قلبك وذاكرتك، وتمتحن صبرك على بؤس هذه الفترة العصيبة، التي تمر على الأمة العربية ولا تعرف متى تهدأ هذه الأزمات، فكلما شارفت على النهايات تفتقت في آخر النهار مصيبة جديدة، لدرجة بات بعضنا ينام ويصحو مشدود الخاصرة من وجع لا يمكن مغالبته، فالألم يكاد يوحد هذه الأمة.
فما يبدو صموداً في اليمن السعيد، يكاد يكون مشروعاً للموت المجاني ومشاعة للقتل، ومجازر قادمة لا يمكن الرهان على توقفها، طالما كان هناك من يتمسك بالكرسي ويطمح للخلود. والواقع في مصر العربية ليس وردياً، ولا في سوريا ولا في العراق ولا حتى في ليبيا الحرة، لأنك حين تقف على أطلال التاريخ السياسي لهذه الدول، ليس لتتذكر "أطلال خولة في برقة ثهمد"، وإنما لتستعيد تلك المآسي التي تركت بصماتها على ملامح المكان، والتي لوثت حتى هذه اللحظة أصالته وعراقته، ولوثت نفسية الإنسان ودبغته بالفقر وعجنته بالكدح، وتركته عاريا أمام طواحين الهواء؛ تقتلع جذوره، وتمسح بقايا الأمل من أعماقه، وتصادر حلمه، فيبدو في نهاية الطريق نصف إنسان ونصف حطام.
التداعيات التي تغلّف حياة الأمة تصيبك في مقتل، فما يبدو أمامك حالة من الانفراج، لا تلبث أن تكتشف بقسوة أنك لا تزال في ذات الدائرة الضيقة، التي توهمت للحظة أنك تملصت منها، وكأن قدر بني يعرب أن يعانوا من الخذلان، بعضه من عدونا وكثير من أنفسنا. فالربيع العربي لم يستطع أن ينتشل البعض من حالة الحداد ويزرع على خده وردة، لأن البعض أراده أن يكون صقيعاً حتى النخاع، حين يخرج عبدة الطواغيت ليدافعوا عن حاكم ظالم، لم يحقق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، أو يضمن أبسط الحقوق لمواطنيه. ولم يدرك بعضهم أن التصالح مع مثل هؤلاء، لا بد أن يكون كما قال أمل دنقل: "معاهدة بين ندين في شرف القلب لا تنتقص">
أما شعوبنا فتأخذها الحمية حتى الرمق الأخير، ثم تدرك أن رهانها كان خطأ من البداية، ذهب ضحيته شباب في عمر الزهور، ولم نعرف حتى هذه اللحظة موتى من في الجنة وموتى من في النار، لأن الفتنة كانت عظيمة، وحين يأتي النصر يكون فاجعاً، لأن من الصعب أن ترتوي الأرض من دماء أبنائها مهما كانت الظروف!
إن حالة الالتفاف التي رأيناها في ليبيا حول شخص "القذافي"، من قبل بعض القبائل، نكاد نراها اليوم في اليمن، وفي سوريا، وتتحرك هذه الجموع نحو إسقاط الضمير ومداهنة النظام، وكأن لا عين ولا أذن ولا عقل لهم، إلا أن ما يحزننا هو هذا الانقسام الذي نراه في الموقف السياسي العربي تجاه ما حدث وما سيحدث. وما يمكن أن يصبح مفهوماً ومبرراً، يسقط في دوامة الشك حين تبادر الجامعة العربية لمنح من لا يستحق فرصة لإصلاح ما لا يمكن إصلاحه، وكان من الأجدر أن يكون هناك استيعاب لدروس الشعوب التي في نهاية الأمر تنتصر، شاء من شاء وأبى من أبى.
لذا في الأيام القليلة الماضية استرجعنا مرغمين ذكريات دور الجامعة العربية، التي منذ انبثاق نورها وهي تعاني من مرض العتمة في مواقفها، ومن عقم في بياناتها الختامية، ومن إحباط في توصياتها، ولم تكن يوماً على مستوى أي حدث، بل كانت تتمزق بين التجاذب والتنافر بين زعمائها، والثمن كان حالة من الإقصاء للشعوب ومزيداً من التردي لمستقبل هذه الأوطان.
في الناحية الأخرى، وحين يبدو أن الظلام يكاد ينقشع في الحالة الفلسطينية، نفاجأ بصفعة قوية كفيلة بإيقاظنا من الحلم بدويلة فلسطينية متناهية في الحجم والطموح، ولكن يمكن لوجودها أن يبعث الأمل لاستعادة مزيد من التراب العربي المسلوب منذ دهر، ولكن هيهات؛ فالفيتو الأميركي يأتي سريعاً ليقوض مشروعية الحلم، حتى لو كان أضعف الإيمان.
فمنظمة مثل اليونيسكو التي تبنت الاعتراف بدولة فلسطين، مهددة اليوم بفشل كافة مشاريعها الثقافية والعلمية على مستوى العالم، وللأسف لن تجد من يسد هذه الثغرة على المدى البعيد، خاصة لو عرفنا أن الولايات المتحدة تساهم بشكل فعّال في ميزانية المنظمة، كما جاء على لسان مديرتها التي اعترفت بأن الولايات المتحدة شريك أساسي في عمل اليونيسكو.
وحجب المساهمة المالية وغيرها من الدعم المادي بسبب التشريعات الأميركية القائمة، سيضعف بالتأكيد قوة اليونيسكو وقدرتها على بناء مجتمعات حرة ومنفتحة، وقد لا يطول هذا الاستجداء فترضخ المنظمة في نهاية الطريق لورقة الضغط الأميركية "وكأنك يا بو زيد ما غزيت".. فماذا نحن فاعلون أمام قوة طاغية، تسخر كل إمكاناتها لتحويل هذه المنظمات لمجرد أدوات لخدمة أهدافها هنا وهناك!
إن حالة الضعف التي نشعر بها، لا تأتي من مشاهد العنف والموت اليومي، ولا من مواقف التشرذم الذي تعيشه الأمة، ولا من حالة اليأس التي بلغت مبلغها تجاه ما تعانيه من ضعف، وإنما هي مزيج من كل ذلك لا يمكن تجاهله أو إسقاطه، وكلما هبت رياح الأعياد وجدنا أنفسنا في حالة من الخصام مع الفرح، ما دامت نشرات الأخبار لا تزال في حالة استنفار مع مزيد من المشاهد الفاجعة، فلا نملك إلا الدعاء على من ظلم هذه الأمة.. اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة.