الاقتصاد الأميركي وروح الإنصاف

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما كنت أشب عن الطوق في ولاية ساوث كارولينا بين أسر تعيش أوضاعاً صعبة، كانت ندرة الطعام أمراً معتاداً. ولم تكن الأمهات اللواتي لديهن شريحتان من لحم الحملان وخمسة أبناء يقدمن الشريحتين إلى أكبر أبنائهن ويحرمن الآخرين. لا، بل كن يقطعنهما، ويضفن الخضار، ويصنعن حساء يكفي لأن يتقاسمه الجميع. ويعد ذلك التصرف الذي ينم عن حب وإنصاف تصرفاً عقلانياً، لأنه إذا عانى الصغار من الجوع، فسيكونون عرضة للأمراض التي يمكن أن تنتقل بالعدوى إلى جميع أفراد العائلة.

يعود جانب من المشكلات الاقتصادية المستمرة في أميركا إلى تجاهلنا لحكمة الأمهات الصالحات. فقد عمدت الحكومة الأميركية إلى إنقاذ البنوك الكبرى، ولكنها لم تفعل شيئاً لمساعدة الملايين من أصحاب المنازل الواقعين في مأزق. وكانت النتيجة إضعاف الاقتصاد الأميركي برمته. ومن دون اتخاذ الإجراءات المناسبة لمعالجة أزمة السكن المستمرة، فإن أميركا ستخسر بلا شك عقداً كاملاً.

والأرقام مثيرة للقلق. ففي المتوسط، انخفضت قيمة المنازل بما يقرب من الثلث منذ انفجار فقاعة الإسكان. وقد خسر الملايين منازلهم، حيث وصل عدد الرهون العقارية متأخرة السداد إلى نحو 6,4 ملايين رهن، وعدد كبير منها في طريقه إلى حبس الرهن. وتصل نسبة المنازل التي تدنت قيمتها عن قيمة الرهن العقاري إلى ما يقرب من منزل من بين كل أربعة منازل خاضعة للرهن. وهذا يعني أن أصحاب تلك المنازل لا يمكنهم إعادة التمويل للاستفادة من معدلات فائدة أقل.

ويقع الأفارقة الأميركيون واللاتينيون في هذا المأزق على نحو غير متناسب مع عددهم من إجمالي سكان أميركا. ومعظمهم من العاملين الكادحين. فهم ينحدرون من أسر لا تملك ثروات مكدسة. ويحصلون على التعليم اللازم، ويعملون بجد، ويدخرون المال. وحين يصبح بمقدورهم تقديم دفعة أولية، فهم غالباً ما ينفقون كامل مدخراتهم على شراء منزل في الضواحي، ليوفروا لعائلاتهم أحياء أكثر أماناً ومدارس أفضل.

وعندما انفجرت الفقاعة، كانوا هم الأشد تضرراً. إذ انخفضت قيمة منازلهم إلى الحضيض. وانتشر حبس الرهن في أحيائهم، مسفراً عن انخفاض الأسعار بدرجة أكبر. وتعرض بعضهم للتسريح من العمل. ولم تكن لديهم ثروة عائلية يركنوا إليها. إن الأشخاص أنفسهم الذين حسنوا من مستوى معيشتهم بعرق جبينهم خسروا مدخراتهم. وفي كثير من الأحيان، نتيجة لانخفاض قيمة منازلهم عن قيمة الرهن العقاري، لم يتمكنوا من إعادة التمويل لتجنب الزيادات القاصمة في قيمة أقساط الرهن.

وفي الواقع، لم يتم عمل شيء من أجل مساعدة أصحاب المنازل الأميركيين. وهذا ليس من قبيل الصدفة. إذ إن الخوف من أن انهيار النظام المالي العالمي سيؤدي الى كساد عالمي دفع كلاً من إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وإدارة الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما إلى اعتماد النهج نفسه من حيث الجوهر. حيث عمدتا إلى إنقاذ البنوك دون إعادة تنظيمها. وسمحتا لها بالتظاهر بأن الضمانات السامة والمدعومة بالرهن العقاري التي قدمتها كانت لا تزال ذات قيمة. وقد ساعد ذلك البنوك على عدم الاعتراف بالخسائر إلا في حال حدوث حبس الرهن. وقد كانت نظرية الإدارتين تنص على أن البنوك إذا امتلكت الوقت الكافي لضمان ديونها المعدومة، فإنها قد تنجو وتستعيد ثقة الأميركيين بها، مما سيفضي إلى تعافي الاقتصاد.

لقد كان أصحاب المنازل المنكوبة بمثابة ما يسميه العسكريون «الأضرار الجانبية» للاستراتيجية. واعتقد البعض أن ذلك التصرف مبرر. فلم تجب مساعدة أناس جازفوا بالحصول على رهون عقارية محفوفة بالمخاطر أو اشتروا منازل لا يستطيعون تحمل تكاليفها؟ ويعود تاريخ انطلاق حزب الشاي جزئياً إلى توبيخ متلفز قام فيه أحد المراسلين التجاريين بالتنديد بتقديم المساعدة لأصحاب المنازل.

ولكن ليس الأشخاص المستهترون هم الذين يتعرضون للأذى فحسب. فقد أثر هبوط أسعار المنازل، وتجاوز الرهون العقارية لقيم المنازل، وحبس الرهن على الأبرياء كذلك. ويعمل نطاق الأزمة الاقتصادية على تغذية الاضطرابات الاقتصادية التي تؤثر على الجميع.

لقد آن أوان التحرك منذ أمد بعيد. وكخطوة معقولة أولى، فيجب على القضاة في محاكم الإفلاس أن يقوموا بتعديل الرهون العقارية، بحيث تضاهي قيمة الدين سعر المنزل (وهي الصلاحية التي مارسوها بالفعل لإنقاذ منازل العطلات الخاصة بالأثرياء). ويمكن للقضاة أن يفصلوا الضحايا الأبرياء عن المتهورين. وسيتعين على البنوك ضمان قيمة القروض. ويمكن إعادة تمويل القروض الصغيرة بأسعار فائدة منخفضة. ومن خلال تخفيض الديون والأقساط، فسيتمكن عدد أكبر من أصحاب المنازل من الاحتفاظ بمنازلهم. وذلك من شأنه أن يقلل من حالات حبس الرهن العقاري، التي تؤدي إلى انخفاض أسعار المنازل وتدمير الأحياء السكنية. ومن شأنه أيضاً إعطاء البنوك وجهات تحصيل الديون حافزاً للتفاوض في جميع المجالات.

وفي إطار الحث على التحرك في هذا الاتجاه، دعا هنري سيسنيروس، وهو الوزير السابق للإسكان والتنمية الحضرية في عهد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، إلى حل أكثر شمولاً، يتضمن تشجيع المستثمرين على شراء المنازل منزوعة الملكية بشكل جماعي وإدارتها كمنازل للإيجار. إن إنقاذ البنوك دون المساعدة على ضمان ديون أصحاب المنازل المنكوبين لا يزال يشكل عائقاً في وجه أي انتعاش. وقد حان الوقت لنتذكر الدرس الذي تعلمنا إياه تلك الأمهات الحكيمات في ولاية ساوث كارولينا، وهو أن الإنصاف أكثر أخلاقية وأكثر فعالية.

Email