عدوى الربيع العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

من الملاحظ أن احتجاجات في دول عديدة بدأت تحذو حذو تلك التي شهدتها الدول العربية في بداية العام الراهن، وعلى الأخص كل من مصر وتونس. وقد رفع المحتجون في أكثر من بلد أوروبى وفي مدن أميركية، لافتات باللغة العربية، كما سموا بعض المناطق التي احتجوا فيها باسم "ميدان التحرير". كذلك فإن الدعوة إلى الاحتجاج بدأت على شبكات التواصل الاجتماعي "فيس بوك" و"تويتر"، وهو نفس الأسلوب الذي بدأت منه ثورات الربيع الديمقراطي العربي.

وهذا المشهد المتكرر في أكثر من قارة، ولدى حضارات مختلفة جذريا عن الحضارة العربية، يدفعنا إلى التساؤل عن أسبابه ومبرراته. ففي الوقت الذي كان فيه الكثير يتعاملون مع الحضارة العربية باعتبارها خارج الزمن، أصبحت هي الملهمة للكثير من الشعوب التي تريد التحرر من الرأسمالية أو من الاستبداد أو غيرهما.

وهناك أسباب متعددة لهذه الظاهرة، لكننا قبل أن نتناولها لابد من الإشارة إلى ملاحظة مهمة، وهي أن النموذج الذي يسعى المحتجون إلى تقليده أو استنساخه، هو نموذج الثورة المصرية التي استطاعت إسقاط نظام الرئيس مبارك في 18 يوما. كذلك فإن المحتجين في الغرب، وإن كانوا يدركون ما حدث في تونس وليبيا ويحدث في سوريا، لا يسعون إلى تكرار أي من هذه النماذج، ذلك أن تونس ظلت فيها الثورة محجوبة عن وسائل الإعلام الغربية إلى الأيام الأخيرة من سقوط الرئيس زين العابدين بن علي. أما مشهد ميدان التحرير بكل ما فيه من دلالات ودروس، فكان منقولا على الهواء مدة 18 يوما، وتحدث عنه زعماء عالميون، وجاء إلى مصر كتاب كبار من أجل مشاهدته على الطبيعة، وبعضهم كتب عنه في كبرى الصحف العالمية.

وهناك أسباب عامة في هذه الظاهرة لعل في مقدمتها، أن مؤسسة الاستشراق العالمية كرست في أذهان الرأي العام العالمي، أن العالم العربي غير مؤهل للديمقراطية، وأن الثقافة التقليدية المترسخة لدى أبنائه تتكيف مع الاستبداد، فضلا عن أن العنف هو أسلوب حياة لأبناء هذه الأمة، وبالتالي فإن مفاجأة الثورات السلمية التي قامت في دول الوطن العربي، أحدثت صدمة لدى الرأي العام الغربي، الذي أصبح يشاهد معجزة تتحقق على الطبيعة أمام عينيه وعلى شاشات التلفزيون. إضافة إلى كل ذلك، فإن المواطن الغربي عندما شاهد الثوار العرب على شاشات التلفزة، وجد أنهم يتحدثون بلغة العصر، ولديهم رؤية واضحة ومتماسكة، ووجد أيضا أنهم يلبسون الزي الغربي، وأنهم يتحدثون اللغات الحديثة بلكنة واضحة، وبالتالي فهم يعبرون بحق عن روح العصر، وهم أبدعوا في الثورة بعدما كانت كافة التحليلات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، تقول إن الثورات انتهت في العالم، وإن الرأسمالية وتحالف قوى الاستبداد مع سادة النظام الرأسمالي، مثل زعماء الغرب المتحالفين مع القوى الاقتصادية المتنفذة، أصبح لهم الغلبة وإلى الأبد.

وجاءت النتائج التي حققتها الثورات العربية، وعلى الأخص المصرية والتونسية اللتان كان النظامان فيهما يحظيان بدعم غربي رسمي، وأيضا بدعم من القوى الاقتصادية المتنفذة، لتؤكد للعالم أن الاستبداد ليس قدرا، وأن الرأسمالية قابلة للمواجهة ويمكن الانتصار عليها، وأن قوى الشعوب إذا ما تجمعت تستطيع أن تواجه المؤسسات المالية المتحكمة في العالم، وهذه النتائج أعطت للمواطنين الجرأة للمواجهة. وقد جرت مناقشات وحوارات بين القوى التي تسعى إلى التغيير في العالم الغربي، وقوى الثورة في الوطن العربي، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، تم فيها تبادل الآراء والخبرات، وهو ما تجلى في أكثر من استحقاق في الغرب، منها مظاهرات اليونان وحركة "احتلوا وول ستريت" وغيرها.

وبالطبع لن تنتج هذه الاحتجاجات نفس النتائج التي تحققت في الثورات العربية، ولكنها ستكون لها نتائج أخرى على الصعيد العربي. وفي مقدمة هذه النتائج، أنها أعادت العرب إلى واجهة الساحة الدولية كقوى ديمقراطية، بعدما كانوا يحتلون هذه الواجهة عدة سنوات باعتبارهم مسؤولين عن الإرهاب الدولي. ولا يقتصر الأمر فقط على أنهم عادوا إلى الواجهة، وإنما أصبحوا ملهمين للقوى الديمقراطية في العالم. وهذا يعني أن الصورة الذهنية السلبية التي ترسخت في أذهان الغرب عن العرب، في سبيلها إلى التغير لتصبح صورة إيجابية، الأمر الذي يفتح الباب أمام حوار شعبي حقيقي بين الجانبين، يمكن أن يساهم على المدى الطويل في حل قضايا عربية عالقة، في مقدمتها قضية فلسطين أي أن إسرائيل لم تعد هي الوحيدة التي تسيطر على المخيلة الغربية، ولم تعد الأساطير التي تروجها هي الوحيدة التي على العالم أن يؤمن بها.

والعدوى التي أصابت الحركات الاجتماعية في دول العالم من الربيع الديمقراطي، تعني أن هذا الربيع يفتح آفاقا جديدة أمام العرب ينبغي عليهم استثمارها بصورة جيدة، ليس فقط من أجل حل قضايا سياسية عالقة خاصة بهم، ولكن لكي يدخلوا في الحوار الحضاري العالمي الراهن. ولكن استثمار هذه الفرصة يجب أن يتم من خلال الشعوب، وعلى الأخص القوى الحية في المجتمع، وهم الشباب الذين قادوا الثورة وألهموا العالم، لأن أي انحراف عن هذا الأمر يمكن أن ياتي بنتائج عكسية، تضر وتحبط أية إمكانات إيجابية تحققت عبر الربيع الديمقراطي العربي.

 

Email