مقارنة بين زعيمين

ت + ت - الحجم الطبيعي

حظيت في عام 2010 بزيارتين علميتين لبلدين من بلداننا الإسلامية التي نعتز بها غاية الاعتزاز، وبدعوتين كريمتين من جامعتين عريقتين فيهما. كانت الأولى لجامعة قار يونس في بنغازي في ليبيا، وكانت الثانية لجامعة عشق آباد في جمهورية تركمانستان في آسيا الوسطى، وكانت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.. وكم وجدت الفوارق كبيرة بين البلدين، ولا يسع المرء إلا أن يتأمل مقارنا بينهما، وبين زعيميهما. ونحن نعلم أن موارد ليبيا الهائلة لا تمكن مقارنتها أبدا بموارد تركمانستان التي تبلغ نسبة الثلث فقط.

وإذا كانت الأخيرة قد خرجت قبل ثلاثين سنة من حكم شيوعي صعب جدا، عانى منه الناس شظف الحياة التي لم تزل آثارها باقية، ونحن نجدها مرسومة على الوجوه، أو واضحة على بقايا المساكن الكئيبة، إلا أن الحياة الجديدة تبدو منطلقة نحو عصر جديد، سواء في الشوارع النظيفة، أو الحدائق الغناء، أو التقاليد الرائعة.. مقارنة بالحياة الليبية التي بدت وقد افتقدت تلك الجماليات على امتداد أربعين سنة مضت، باستثناء ما حافظ عليه المجتمع الليبي من خصائص وميزات، ولم تسلم حتى الآثار الحضارية والشواخص الليبية القديمة من اعتداءات السلطة أو إهمالها، وبدت الأسواق كئيبة، والبيوت سقيمة، والأرصفة محطمة، والباصات مجرد عربات قبيحة.

لم أجد أبناء ليبيا يكنّون أي مودة لزعيمهم "العقيد" الذي تحكّم فيهم وفي مقدراتهم لأكثر من أربعين عاما، وكانت بينهما حواجز تفصلهم عن برجه العاجي! حدثني بعض الزملاء الليبيين سرّا عن آلامهم وعذابات شعبهم، وهم يكظمون غيظهم، وينتقدون سياسات النظام، وما تفعله بهم اللجان الشعبية، وأن مشروعات الإهمال والهدم قد طالا كل الآثار والمعالم الإغريقية والرومانية والبيزنطية والفاطمية والعثمانية والسنوسية والطليانية.. وأن الاضطهاد الذي فرضه عليهم النظام الدكتاتوري الأحادي لا مخرج منه، بل ويتندرون على زعيمهم وقد جعل نفسه ملك ملوك إفريقيا، وعميد زعماء العرب، وأمام رؤساء مسلمين يصلي بهم.. بل ويتجرأ بعضهم لينتقد تبديد زعيم متغطرس لموارد بلاده الهائلة بجنون، على الآخرين وعلى توافه الأمور، وما يفعله أبناؤه الطائشون بالناس..

وعندما مررنا بقلب طرابلس العاصمة، أشار أحدهم إلى قصر متواضع في قلب طرابلس يعود للملك إدريس السنوسي رحمه الله، والذي جعله أحد أبناء العقيد دائرة لنزواته وشهواته.. وكنت مندهشا عندما حطّت بي الطائرة في مطار طرابلس، إذ وجدته كما هو حاله منذ 30 سنة.. ضيقا، كئيبا، مزدحما لا يستقيم وحالة هذا العصر، وعندما دهشت لوضعيته السيئة، أجابوني بأن "الأخ العقيد" يبني الآن مطارا جديدا.. نعم، كانت الأجوبة جاهزة عندما أسأل عن الأسواق القاحلة كون الانفتاح سيأتي مع الإصلاحات!

ولماذا الأرصفة محطمة، فالإجابة أن الدولة باشرت في إصلاحها! ولماذا لم أجد بنية تحتية مدهشة كما هو حال بلدان الخليج، يأتيني الجواب: إن مهمتنا العالمية توحيد إفريقيا ونشر الكتاب الأخضر في العالم.. فألوذ بالصمت المحزن!

حضرت تجمعا طلابيا، فلم أسمع فيه إلا التسبيح بحمد "الأخ العقيد" وتكرار مقولاته التي لا معنى لها، بل إنها كلها لا تعدو أضغاث أحلام وأوهام! كنت أعلم أن جغرافية ليبيا هائلة، وأن عدد السكان قد تعدّى 6 ملايين نسمة، وأن الناتج المحلي الإجمالي هو 92 مليارا ونصف المليار من الدولارات! ولكن مؤشر التنمية البشرية أقل من 1% وياللأسف الشديد! بعد قرابة شهرين، حطت الطائرة بي في عشق آباد عاصمة تركمانستان.

فبدت لي المدينة جميلة بشوارعها العريضة، وبناياتها الرائعة، وحدائقها الغناء.. البلاد غنية أيضا، ولكن الدولة تسعى في كل الاتجاهات لتطويرها، وهي تعتمد على نفسها باكتفائها الذاتي، والشوارع تنظف مرتين في اليوم.. باصات نقل الناس حديثة وتغسل يوميا.. الدولة تعتني بآثارها القديمة وزهورها وفنونها المتنوعة، وقد بنيت متاحف ومعارض ومسارح وعمارات سكنية على أحدث الطرز المعمارية الجميلة، والبلاد تزدحم بالفرق الموسيقية التي تعزف أجمل الألحان.. رئيس البلاد قربان محمدوف، شاب مثقف ومطلع على حياة العصر، وهو فنان وموسيقار.. يصحو منذ الصباح الباكر ليلبس بدلته السفاري الزرقاء ويقود سيارته اللاند كروزر بنفسه، نحو حزام الأشجار الذي يلف العاصمة، ليراقب إرواءها ويتحدث مع العمال.

ثم يدلف إلى بعض المدارس ليدخل الصفوف ويرى كيف يتربى أبناء الجيل الجديد.. ثم يأخذ طريقه إلى السوق، ليرى الأسعار ويتفقد أحوال الناس، يتكلم مع هذا العجوز، ويبادل الابتسامة مع الصبايا المحتشمات.. يدخل مقهى شعبيا يجالس الشباب، ثم يدفع أجرة كوب الشاي الذي شربه.. ثمّ تجده في مكتبه ببدلته الرمادية وربطة عنقه الحمراء يعالج شؤون البلاد ومصالحها، أو يستقبل زواره بكل تواضع وأدب، وعندما تحادثه، تجده مهتماً بتاريخ بلاده واعتزازه بأمجاد شعبه، ويفكر في تحقيق الأفضل من أجل مستقبل أجياله، بل ويخطط كيف يحصل على الاستثمارات للارتقاء بالبلاد، وقد أطلق حريات الآلاف من سجناء الرأي السابقين على عهد سلفه.

حضرنا تجمعا وطنيا أنشد فيه شباب تركمانستان كلمات ساحرة عن الوطن، وهم يتوشحون بألبستهم الفولكلورية الزاهية ويصطفون بنظام قل نظيره.. كنت أهيب بهذه التجربة الرائعة وأنا مدرك أن عدد السكان لا يتعدى خمسة ملايين نسمة، وأن الناتج المحلي الإجمالي هو ثلث ما لدى ليبيا، فهو 30 مليارا من الدولارات.. سألت نفسي: لماذا لا تسلك ليبيا سلوك تركمانستان لتجد نفسها بعد حين من أروع البلدان.. ولماذا خسرت آلاف الضحايا، ولماذا فرّ زعيمها في البراري أو اختبأ في الكهوف؟

 

Email