ما وراء القرار التركي ضد إسرائيل

ت + ت - الحجم الطبيعي

القرار الذي اتخذته حكومة حزب العدالة والتنمية التركي، بطرد السفير الإسرائيلي وتخفيض التمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلى أدنى مستوى، له العديد من الدلالات الداخلية التركية أكثر من الدلالات الإقليمية. فالقرار دليل قوي على أن الحكومة التركية أصبحت هي المتحكم في صنع القرار السياسي الخارجي.

وأن الجيش لم يعد يتدخل في صنع هذا القرار. فالمعروف أن روابط قوية كانت تجمع بين إسرائيل ومعظم قادة الجيش التركي، وأن هذا الأخير كان هو حامي علاقات البلدين. وبالتالي فإن هذا القرار لم يكن ليحدث بالصورة التي تم بها، من دون الإجراءات الأخيرة التي قلصت من دور الجيش التركي في العملية السياسية، وجعلته يخضع لسلطة الحكومة، بعدما كان يعتبر نفسه سلطة أعلى منها.

ولم تكن الحكومة التركية تستطيع أن تتخذ مثل هذا الإجراء، ما لم تكن قد حققت النجاحات الاقتصادية التي حققتها خلال السنوات الأخيرة، والتي تجعلها تستغني عن مساعدات الدول التي تحمي مصالح إسرائيل، وفي مقدمتها الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية. وهذا يعني أن الاستقلال الاقتصادي كان مقدمة مهمة للحكومة، سواء لكي تضع الجيش في موقف الدفاع في مواجهتها، أو لكي تستقل في قرارها الإقليمي عن القوى الخارجية.

ويمكننا أن نضيف لهذه الأسباب أسبابا أخرى تتعلق بالقاعدة الشعبية لحزب العدالة والتنمية، فهذا الحزب الذي يضم فئات وأطيافا شتى من الأتراك ذوي النزعة الإسلامية، يضم قطاعا يكن عداء خاصا لإسرائيل، وكان على قيادة الحزب إرضاء هذا القطاع. يضاف إلى ذلك أن حادث الهجوم على السفينة التركية، ضم قطاعا آخر إلى قائمة المعادين لإسرائيل.

وهم القوميون الأتراك المتشددون الذين اعتبروا الموقف الإسرائيلي إهانة لتركيا، وليس لحزب العدالة والتنمية وإسلامييه، وبالتالي فإن الحزب يحاول بهذا القرار الذي اتخذه ضد إسرائيل، إرضاء قطاعات شعبية متنوعة، وهو ما يؤدي في النهاية إلى زيادة شعبيته ورضى الجماهير على أدائه.

وهذه الأسباب الداخلية تختلف بالطبع عن أسباب أخرى إقليمية، منها ما يتعلق بسعي تركيا لدور مركزي في المنطقة المحيطة بها، وأيضا ما يتعلق بتداعيات العلاقة مع إسرائيل في الفترة التي حكم فيها حزب العدالة والتنمية.

فتركيا لديها نزعة لأن تصبح دولة عظمى إقليمية، سواء بهدف إقناع الاتحاد الأوروبي بأن ضمها إلى عضويته يعد أمرا إيجابيا، حتى تصبح هي جسر التواصل بينه وبين العالمين العربي الإسلامي، أو حتى لتعويض عدم ضمها إليه في حال قرر الاتحاد عدم الموافقة على أن تصبح تركيا دولة كاملة العضوية فيه. والحكومة التركية تدرك أن الدور الذي تسعى إليه لابد له من شرعية شعبية، وقرار طرد السفير الإسرائيلي من تركيا يحقق لها هذا الأمر.

والحاصل أن تركيا وهي تسعى لدور إقليمي مركزي في المنطقة، تدرك أنها تتصارع مع قوى متعددة، منها إسرائيل وإيران، ودول عربية مركزية مثل مصر والمملكة العربية السعودية، وهي تدرك أنها يمكن أن تتكامل مع دول منها وتتنافس مع دول أخرى، ومن يراقب التحركات التركية في السنوات الأخيرة، سيجد أنها قررت أن تتكامل مع الدول العربية وأن تتنافس مع إسرائيل.

لكن سياساتها تجاه إيران التي تسعى هي الأخرى لدور إقليمي نشط، لم تتضح بعد، فهي تتنافس معها تارة وتسعى للتكامل معها تارة أخرى. ونعتقد أن بلورة الدور التركي تجاه إيران، سوف تتم بعدما يتضح رد فعل إسرائيل على القرار التركي بتخفيض مستوى العلاقات بين الجانبين.

والملاحظ أن علاقات حزب العدالة والتنمية بإسرائيل، مرت بمراحل متعددة، منها محاولة الحزب أن يتحفظ بعلاقات متميزة مع كل من إسرائيل والعالم العربي، لعل ذلك يساعده في أن يكون وسيطا مقبولا من الطرفين، وهو الأمر الذي يساعده أيضا في أن تصبح تركيا دولة مركزية على المستوى الإقليمي.

ولكن إسرائيل لم تمكن الحزب من لعب هذا الدور، خاصة أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. كذلك فان غطرسة إسرائيل وسياستها الوحشية تجاه الشعب الفلسطيني، جعلت قيادات الحزب تواجه ضغوطا شعبية، سواء من داخل الحزب أو خارجه، حتى تتخذ مواقف حاسمة تجاه إسرائيل، وهو ما تم على مراحل كان آخرها قرار طرد السفير الإسرائيلي.

وكانت حكومة حزب العدالة والتنمية تأمل أن تتخذ الحكومة الإسرائيلية قرارا يحفظ لها ماء وجهها أمام شعبها، أي أن تعتذر لها عن قتل مواطنين أتراك حاولوا الذهاب إلى غزة من أجل مساعدة الشعب الفلسطيني هناك، الذي يعاني جراء الحصار الإسرائيلي، ولكن إسرائيل أصرت على إحراج الحكومة التركية، فيما يبدو كأنه صراع إرادات بين الطرفين.

ولم يكن أمام الحكومة التركية سوى طرد السفير الإسرائيلي، وهو القرار الذي يمكن أن يتم تصعيده بقرارات أخرى قاسية، حسب رد الفعل الإسرائيلي على قرار طرد السفير.

وبالطبع فإن هناك تقييمات متعددة للخطوة التركية، وإن كان منها ما يرى أن إسرائيل كانت تدرك أن تركيا ستصل بسياستها إلى قرار طرد السفير، انطلاقا من تقدير موقفها لسياسات حزب العدالة والتنمية، وبالتالي فهي لم تسع إلى ترضية الحزب، لأنها أدركت منذ مجيئه إلى الحكم أن العد التنازلي لعلاقاتها المتميزة بتركيا قد بدأ، وهي أرادت أن تصل بالأمور إلى وضعها الطبيعي مبكرا، حتى لا تعطي الحزب أية مزايا في حال ساعدته على القيام بدور الوسيط في الصراع العربي الإسرائيلي.

 

Email