الاحتفاء بالغريب وإكرام الضيف في ثقافة أهل الإمارات ليست بالجديدة بل هي موروث اجتماعي وقيمي استمدوه من تراث أهل البادية ومن الثقافة الاجتماعية العربية .

فقد أحتفي أهلنا في الماضي بالغريب خاصة الأوروبي أو الغربي لأنه في نظرهم ليس فقط غريبا عن الديار بل هو غريب عن اللغة والثقافة الاجتماعية ويستحق الاحتفاء به حتى تزال عنه كل آثار الغربة ويشعر بالراحة.

فكانت زيارة الأجنبي وبالذات الأوروبي للإمارات حدثا غير عادي وكانت ضيافته والاحتفاء به مميزة حتى لو كلف الكثير. فالثقافة الاجتماعية تقول بأنه يجب أن يشعر بأنه صاحب الدار وأن رب الدار هو الضيف. إنها ثقافة الكرم البدوي التي يبدو أنها لم تغادرنا مطلقاً.

وعلى الرغم من كل المتغيرات الحياتية والاجتماعية الحديثة والمتسارعة التي طرأت على أنماط حياتنا وسلوكنا إلى الآن الكثير من قيمنا المتوارثة لم تتغير، ومن هذه القيم طريقة احتفائنا بالغريب أو الأجنبي تحديدا. فلا زال الأوروبي محتفى ومرحبا به أينما سار، وما زالت الثقافة الاجتماعية تقدره وتعطيه أكثر من حقه أينما وجد حتى وإن اختلف الوقت وتغيرت الظروف واختلفت غايات الأجنبي من المجيء إلينا.

ففي الماضي كان القادم إلينا إما رحالة يبحث عن سبق معرفي أو لتسجيل ملاحظات جغرافية وإما صائد امتيازات بترولية أو طبيب زائر لتقديم خدمة علاجية. ولم تكن فترة إقامته في المنطقة تتعدي الأيام القليلة أو بالأكثر الأسابيع يختفى بعدها ليظهر زائرا أخر. إما الأن فلم يعد الأجنبي زائرا مؤقتا بل أصبح مقيما دائما وجزءا من النسيج الاجتماعي وله ما لنا.

في الماضي لم يكن يكمن وراء احتفائنا بالأجنبي أو الأوروبي سوى إظهار الكرم العربي الأصيل لذلك القادم من مجتمع متحضر إلى مجتمع الكفاف أما الآن فقد أصبح احتفاؤنا به قائما على اعتبارات أخرى عديدة. فمنذ الطفرة النفطية بدأ توافد، أو بالأحرى استقدام هؤلاء الغربيين إلى بلدنا لغرض المساهمة بخبراتهم في تنفيد الخطط التنموية. وعرف هؤلاء «بالخبراء» حتى تبلور اللفظ وأصبح فعليا لا يطلق إلا عليهم.

وأصبح هؤلاء لا يشكلون عنصراً وافداً مؤقتاً، بل مكونا أساسيا من مكونات المجتمع لا غنى لنا عنه في كافة الخطط والاستراتيجيات- بدأ من الرياضة وانتهاء بعشرات الخطط التنموية الكبرى والتي لا تكتمل إلا بوجود خبير أو اثنين وأحياناً عشرات ينتمون إلى بيوت خبرة. وأصبح مقياس الجودة في أي مؤسسة هو عدد الخبراء الأجانب . وطبعا لا يكتمل وجود هؤلاء إلا بإعطائهم المزايا الضخمة والامتيازات الكبيرة والرواتب العالية وبالعملة الأجنبية التي يسيل لها لعابهم.

وبدأت أعداد هؤلاء في التزايد حتى شكلوا مجتمعا داخل مجتمع ولهم قضاياهم الخاصة وأنماط حياتهم التي تختلف كليا عن حياتنا. وتحولت إقامة هؤلاء من مؤقتة إلى دائمة خاصة وأن البلد في تطور مستمر ويحتاج إلى عمالة نوعية وخبرة دائمة. وتحول هؤلاء من مجرد عمالة مساعدة إلى عمالة منافسة ذات نفوذ وسلطة.

إن اعتمادنا على الأجنبي إلى هذه الدرجة وإعطائه في بعض الأحيان المنزلة التي لا يستحقها لمجرد أنه أجنبي، هو استخفاف بكفاءة الآخرين وجهودهم وخبراتهم. فأحيانا يحصل الأجنبي على امتيازات كثيرة ليس لكفاءته بل لمجرد أنه يتكلم لغة غير لغتنا ويمتلك شكلا لا يماثل أشكالنا، ويستطيع أن يبيعنا أحلاما نحن غير قادرين فعليا على تحقيقها. فكم خبير أخبرنا بأننا يمكن أن نصل إلى العالمية في الرياضة.

وكم خبير أخبرنا بأننا نستطيع أن نصل إلى الفضاء لو أردنا، وكم خبير تحمس لفكرة إنتاج الطائرات والصناعات الثقيلة لو أصررنا نحن على ذلك. بالطبع نحن نستطيع تحقيق كل ذلك ولكن بسواعدنا وفكرنا وإبداعنا وليس بسواعد وفكر غيرنا.

إن احتفاءنا المبالغ فيه بالأجنبي لا يرفع من قدرنا في عينه بل على العكس فهو يقلل من هيبتنا في أعين غيره. كما أن الاعتماد المبالغ فيه عليه يرسخ لديه فكرة التفوق العرقي أو «تفوق الرجل الأبيض»، تلك الفكرة التي رفضها أجدادنا قديما فكان ذلك الصراع بينهم وبين الغربيين والذي على أثره أطلق على منطقتنا مسميات عدة للتقليل من شأنها. وكما تترسخ لديهم فكرة التفوق العرقي سوف تترسخ لديهم أيضا فكرة أننا أقل منهم مستوى وفكرا وعلما وقدرة على الإبداع والتجديد.

إن التبادل العلمي والحضاري مع الآخر فكرة سامية ومحور مهم للثراء الحضاري والثقافي للبشرية جمعاء ولكن هناك فرقاً بين التبادل والاعتماد. فالتبادل هو أن نعطيهم ونأخذ منهم على أساس من المساواة والتساوي، ولكن أن نعتمد عليهم اعتمادا كليا ونعطيهم ما ليس حقهم فهنا مكمن الخلل والخطر.

إن «الخبير» ضرورة ولكن حتى لا يتحول إلى ضرر يجب الانتباه إلى تبعات استقدامه. فليس كل مجال من مجالات الحياة محتاجا إلى خبير ولا كل خطة تنموية محتاجة إلى أجنبي لتنفيذها. ويجب أن نتذكر بأننا في بعض المجالات التنموية قد حققنا نجاحاً باهراً من دون خبراء أجانب، بل يمكن القول إننا نحن من يستطيع تقديم الخبرة.

ويكفينا فخرا بأننا قد وصلنا إلى مراكز متقدمة في العديد من المجالات، طبقا لتصنيفات المنظمات الدولية، دون أية مساعدة.

إن احتفاءنا بالأجنبي بهذه الطريقة المبالغ فيها يخلق لدى البعض احتقاناً كبيراً وامتهاناً للكرامة. فقد درج ديننا على أن يعطي كل ذي حق حقه سواء كان صاحب الحق عربيا أو أعجميا. فمكانة كل فرد تتحدد بمقدار عطائه للمجتمع وقدرته على خدمة محيطه الاجتماعي وليس بلونه أو لغته. هكذا علمنا ديننا وهذا ما يجب أن نطبقه.