يتحدث مراقبو الأوضاع الصينية عن أحد أبرز التطورات التي ظهرت ،أخيراً، على المشهد السياسي والاجتماعي الصيني، والمتمثل في انتشار «الأغاني الحمراء»، وهي الأغاني الثورية التي تمجد اليسار التي شهدتها الحقبة الماوية. بدأت الظاهرة في مدينة تشونغتشينغ، وهى مدينة رئيسية تضم 20 مليون شخص تحت قيادة واحد من أكثر السياسيين غموضاً في البلاد.
وهو بو شي لاي. فبعد 30 عاماً مما وصفه الكثيرون بالرأسمالية فائقة السرعة، عادت الأناشيد الشيوعية الثورية القديمة لتسيطر على الساحات العامة وشاشات التلفاز. ويقول كثيرون، بنبرة يشوبها القلق، أن ذلك يشير إلى تحول وشيك يبدو مرعباً بقدر ما تبدو العودة إلى الثورة الثقافية. ومن الناحية الأخرى، يرى بعض الحرس القديم وأتباعهم الجدد، الذين يطلق عليهم «اليسار الجديد»، أن الحزب أعاد اكتشاف الجذور الاشتراكية التي يبدو أنه تخلى عنها تحت مسمى التنمية الاقتصادية. وكلتا النظريتين بسيطة ومخطئة إلى حد كبير.
استوردت الصين مفهوم الحزب السياسي من الغرب الحديث في أواخر القرن التاسع عشر، وخلال تأسيسه وعبر كفاحه لاكتساب وتوطيد سلطته السياسية، لم يكن الحزب الشيوعي الصيني المؤسسة السياسية ذاتها التي يعنيها مصطلح «حزب». ربما كان يحمل الملامح التنظيمية للحزب السياسي.
ولكنه في الواقع كان حركة سياسية قومية يسارية. أما اليوم، فمن الواضح أن الحزب لم يعد حزباً سياسياً وفقاً لما يشير إليه مصطلح العلوم السياسية الحديثة. فهو لا يمثل مجموعة تسعى لتمثيل أفكار ومصالح شريحة من الشعب الصيني. بل إنه يزعم تمثيله للشعب الصيني بأكمله.
وبدلاً من أن يكون حزباً، كان تحالفاً سياسياً يحكم الصين من خلال إدارة طائفة واسعة من المصالح والطبقات والأفكار والموازنة فيما بينها، وبالتالي تحديد المسار الذي يخدم على المدى البعيد مصلحة الأمة ككل. ولأنه نشأ كحركة جماهيرية، فإن هذا التحول يتطلب اتباع نهج أكثر شمولية تجاه طبقات النخبة. أو باختصار، الانتقال من اليسار إلى اليمين.
ومن ثم حدث تطور مهم. فقد جاءت معظم الاعتراضات على حكم الحزب من اليسار، الذي ضم الشعوبيين والديمقراطيين الليبراليين. وقد أثار عدد كبير من المثقفين ووسائل الإعلام الليبرالية والآراء المتداولة على صفحات الإنترنت موجات من الاستياء من الوضع القومي.
وتركزت انتقاداتهم على فجوة الثروة الناجمة عن اقتصاد السوق، وغياب نظام الرفاه الاجتماعي، وحصول النخب التجارية والتقنية على حصة الأسد من المكاسب الاقتصادية، كما تركزت على المسؤولين الذين يقودون هذا التحول القومي. وقد كان الفساد أحد أهم مصادر الشكوى، إلا أنه كان مصدراً عارضاً بالنسبة لخط الانتقادات الموجه من جانب اليسار، نظراً لأن هذه الظروف ستكون موجودة مع الفساد أو بدونه.
وبذلك أصبحت لدينا، وللمرة الأولى منذ تأسيس الاتحاد السوفيتي دولة شيوعية يمثل فيها اليساريون جبهة المعارضة الرئيسية لحكم الحزب الشيوعي. ويشكل هذا الأمر مصدر حيرة بالنسبة للمراقبين الخارجيين على وجه الخصوص، لأنه كان من المعتاد في الصين وفي كل دول العالم أن تأتي المعارضة للحكم الشيوعي من اليمين السياسي.
وبعيداً عن الضوضاء التي تتحدث عن اليسار واليمين، نرى أن ظاهرة «الأغاني الحمراء» هي محاولة من جانب الحزب لاستعادة قاعدة قوته التقليدية المهددة بأن يسلبها معارضوه من داخل وسائل الإعلام والنخبة المثقفة. وبالطبع، من دون دعم جماهير الشعب الصيني، سيستحيل على الصين أن تمضي قدماً في مسار التنمية الذي تنتهجه حالياً، وستكون مصالح النخب الشخصية في خطر.
وهناك دلالتان لهذا التطور. أولاً، على الرغم من أن هذه الحركة تمثل رد فعل على معارضة اليسار، فقد ينجح الحزب من خلالها في تعزيز قوته السياسية. إذ إن تحالفه مع عامة الشعب كان قوياً ولا يزال يجري في عروقه. وبمجرد أن يقرر المضي قدما في ذلك الاتجاه، لن يكون من المحتمل أن تتمكن شعوبية وسائل الإعلام والنخبة المثقفة من التغلب عليه.
في تشونغتشينغ، حيث بدأ كل هذا، يبدو أن النمو الاقتصادي السريع يسير بالتزامن مع، بل وربما بدعم من، التأكيد على قوة الجماهير. وتشير النتائج الأولية لحملة التغني بالشيوعية في المدن الصينية الأخرى إلى الاتجاه نفسه.
ثانياً، تقترن الشعوبية عادة وفي كل مكان بنزعة قومية، وكذلك الحال في الصين. ففي وسائل الإعلام، وخصوصاً على شبكة الانترنت، عادة ما يرافق الشعوبية التي تتحدى الحكم الشيوعي نزعة قومية ملتهبة. فمن تأييد تبني موقف عسكري أشد عنفاً في بحر الصين الجنوبي، إلى إدانة مواصلة الحكومة الصينية لشراء سندات الخزانة الأميركية، يضغط ثنائي الشعوبية والقومية على الحزب لتغيير سياسة الاعتدال تجاه الغرب التي يعتمدها منذ أمد طويل.
وفي الوقت الذي تدخل فيه الصين مرحلة حساسة قبل تغير القيادة في عام 2012، تبقى هناك تساؤلات مهمة. فعلى المستوى المحلي، هل سيتمكن الحزب من الحفاظ على التوازن الدقيق بين استعادة قاعدته الجماهيرية وحماية مصالح طبقة النخبوية، التي تشكل عاملاً مهماً لاستمرار النجاح الاقتصادي، والذي بدوره يضمن دعماً طويل الأمد من عامة الشعب؟
وعلى المستوى الدولي، هل سيكون بمقدور الحزب أن يروض النزعة القومية الهائجة، أو حتى يستميلها، ويحافظ في الوقت ذاته على سياسة خارجية معتدلة نسبياً توفر بيئة خارجية سلمية وضرورية لتقدم الصين؟ أما بالنسبة للحزب نفسه، فهل سينجح في تجاوز مفهوم الحزب السياسي التقليدي، والتحول إلى منظومة مستقرة تحكم أكبر الدول وأسرعها تغيراً على وجه الأرض؟ إذا حدث ذلك فعلاً، فسيغير الحزب طريقة الحكم في الصين، بل وعلم السياسة نفسه.