فتح باب العزيزيّة رمز لصنع الحريّة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد انتصر الليبيون الأحرار في صنع تاريخهم، وحققوا فتحاً مبيناً بعد انطلاق ثورتهم على الظلم والبغي والطغيان. لقد شدوا أنظار العالم كله، وقدموا تجربة تاريخية نادرة في القرن الواحد والعشرين، بعد أن أثبتوا بجدارة أنهم أبناء وأحفاد عمر المختار، الذي صنع تاريخاً رائعاً في القرن العشرين.

نعم، سجل الليبيون تاريخاً ناصعاً منذ انطلاق ثورتهم الحقيقية، وبعد أكثر من ستة أشهر، ضد حكم الطاغية معمر القذافي الذي حكمهم بالحديد والنار. لقد قلب الليبيون في تجربتهم الثورية ضد الطاغية كل الموازين، عندما أصروا إصراراً تاريخياً على استمرار المواجهة والاستجابة للتحديات المريرة حتى تحقيق النصر.. وقدموا آلاف الشهداء على مذبح الحرية الحمراء، فصبغوا أرضهم الطاهرة بدمائهم القانية، وتحملوا ثقل المسؤولية التاريخية ببقائهم موحدين متماسكين متعاونين متلازمين، ضد أشرس قوة عسكرية احتكرها منذ أكثر من أربعين سنة، طاغية أحلّ سفك دم شعبه من أجل أن يبقى في السلطة مع أبنائه..

كنت أتمنى عليه أن يختار طريقاً آخر له منذ اندلاع التظاهرات ضده، وألا يواجه شعبه الأعزل ويقصفه بالحديد والنار. كنت أتمنى أن تكون تجربتا تونس ومصر مطلع العام 2011، درساً له يتعلم منه العبر، ولكنه أبى واستكبر وطغى. لم نجد زعيما أهان شعبه بخطاباته الجوفاء، ووصف كل معارضيه بأقسى أنواع الشتائم، إلا هذا الطاغية الذي تهاوى عرشه بعد أن تحطمت قلعته عند باب العزيزية! هؤلاء الشجعان الذين زحفوا بروحية بطلهم عمر المختار، ليسوا «جرذاناً» أيها العقيد العنيد.

فقد اقتحموا الصعاب، واخترقوا الصحارى في أيام الصيف اللاهبة، وراحوا يكرّون ويفرون أمام دباباتك، ومجنزراتك، وأرتال كتائبك، وفرق قناصتك، وشراذم مرتزقتك.. هؤلاء هم الليبيون الحقيقيون، والذين برعوا في الحرب ضد هذا الدكتاتور ليسوا «أولاد حرام» يا هذا، كما وصفتهم! ما كنت أصدق مثل هذه الترهات المجنونة التي كان يعلنها من وقت إلى آخر على العالم.. ما كنت أدرك أن زعيماً عربياً يحترم نفسه، يمكن أن يصف شعبه بمثل هذه الأوصاف القذرة، وكم كنت أتمنى عليه أن يتسامى بأخلاقيات رفيعة عالية..

ما الذي فعلوه؟ ما الذي اقترفوه؟ إن من حق أي شعب أن يقول كلمته، ومن حق أي مواطن أن يعلن إرادته وما يؤمن به، ومن حق أي إنسان أن يكون حراً لا يتقيّد بأغلال الطغاة والمعتوهين.. وليس من حق أي زعيم خان الأمانة وقتل الشرعية، ووصل السلطة بانقلاب عسكري، أن يفرض نفسه على شعبه فرضا بالقوة.. ليس من حقه أن يمتهن وطنه، وليس من حقه سحق بلاده، أو أن يشعل الحرب ضد أهله ومواطنيه.. فكيف تسمح له أخلاقه بأن يصفهم بالجرذان أو بأولاد الحرام؟!

إن ما سطره الليبيون على الأرض، أثار دهشة العالم كله. لقد عبروا عن إرادتهم الوطنية تعبيراً تاريخياً حقيقياً، وقد كانوا من الصابرين المحتسبين على امتداد الأربعين من السنين. لقد قدموا للتاريخ أمثلة حية على المثابرة والمجاهدة والمعاضدة والمجالدة.. لقد كانت التجربة الليبية من أنضج التجارب الثورية العربية الراهنة. لقد راهن البعض على انقسام ليبيا، ولكنها لم تنقسم، وراهن البعض على تفكك الليبيين، لكنهم ظهروا موحدين متراصين متلاحمين غير منقسمين ولا متشرذمين باستثناء أخذ الثارات.. وراهن البعض على اندحار المؤسسات، واحتراق الأجهزة، ونهب كل الدولة.. ولكن توضّح العكس تماماً، فلقد بقيت مدن ليبيا فضلاً عن العاصمة طرابلس بلا دولة، لكننا لم نسمع أبداً عن أعمال مخزية أبداً.

إن ليبيا اليوم عند مفترق طرق صعب. إنها بحاجة ماسة إلى فترة نقاهة تاريخية، لشفاء الجروح وإزالة القروح. إنها أمام منطلق زمن جديد كي تبدأ بصنع مستقبلها، محافظة على كيانها الجغرافي الموحّد الذي بناه الأجداد العظام.. وأن يتمتع كل ليبي بحريته وكرامته، بعيدا عن الإقصاء والتهميش وتكميم الأفواه، وأن يأخذ كل ذي حق حقه، وتعود ليبيا إلى حاضنتها المدنية بعيداً عن القبلية، وتمارس فيها الروح الجماعية بديلاً عن الزعامة الفردية، وأن تدخل حياة العصر من أجل البناء والتقدم، بعيدا عن الشعارات والأوهام. وأن يكون الإنسان المناسب في مكانه المناسب.

وأن تنفتح ليبيا على العالم كله، كي يكتشف عظمتها وجمالها وأسرار حيويتها، خصوصا وأنها تمتلك مواريث حضارات قديمة، لم تزل آثارها شاخصة حتى اليوم، والتي أبعدها الطاغية عن الأنظار! وأتمنى على كل الذين جاملوه ورفعوا شعاراته أن يعتذروا للعالم، فقد كانوا سببا في صناعة دكتاتور لا يسمع إلا نفسه، ولا يرى إلا صورته، ولا يفكر إلا بأوهامه.. أحرق موارد ليبيا كلها على نزواته، وبدّد ثرواتها على جماعات ومنظمات وعصابات..

تحية أزجيها إلى أولئك الرجال الأبطال من أحفاد عمر المختار، الذين اقتحموا قلعة باب العزيزية بعد نضال دؤوب، وحرب ضروس، ومعارك شرسة.. تحية إلى أولئك الليبيين الرائعين نسوة ورجالاً، شيوخاً وأطفالاً.. من الذين اشتغلوا سراً ليل نهار، كي يحققوا مثل هذا الانتصار ويقوّضوا حكم زعيم طاغية جائر.. ولقد تبين الحق من الغيّ بعد كل هذه المسيرة التاريخية العظيمة، التي تكللت بالنصر العظيم عند باب العزيزية، وأسقطوا حصناً حصيناً سيبقى كالباستيل رمزاً للتنكيل والطغيان والإذلال والرعونة.. سيبقى باب العزيزية رمزاً لصنع الحرية على امتداد الأزمان..

 

Email