الربيع العربي وخسائر روسيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

يدور الحديث كثيرا عن الموقف الروسي تجاه الأحداث والثورات الشعبية في بلدان العالم العربي، ويصور الإعلامان الغربي والعربي الموقف الروسي بالسلبي تجاه انتفاضات الشعوب العربية من أجل نيل حريتها وتخلصها من الأنظمة المستبدة الحاكمة، هذا على الرغم من أن هذه الأنطمة الاكمة في البلدان التي تشهد الثورات كانت مدعومة من الغرب وواشنطن بشكل كبير.

وكان الجميع يتغاضى عن استبدادها وديكتاتوريتها وقمعها لشعوبها من أجل المصالح الخاصة، بما فيها نظام القذافي في سورية الذي شهدت الأعوام الخمسة الماضية تقاربا كبيرا بينه وبين أوروبا وواشنطن، والآن الجميع في الغرب يهاجمون هذه الأنظمة ويطالبون بإسقاطها ويدعمون الثوار والمعارضين، وهذه الازدواجية المعروفة في السياسة الغربية لا تعرفها روسيا ولم تمارسها من قبل، وقد دعمت موسكو قرارات الأمم المتحدة ضد نظام القذافي، لكنها رأت أن واشنطن والأوروبيين استخدموا هذه القرارات بشكل يناقض محتواها وأهدافها، وتخشى موسكو أن يحدث هذا في سوريا وفي دول عربية أخرى.

ربما لا يخفى على أحد أن مصالح روسيا الاقتصادية والتجارية في المنطقة العربية ضعيفة للغاية وليست على مستوى قريناتها من دول أوروبا، أما واشنطن فهي صاحبة نصيب الأسد في هذا المجال في المنطقة، وهذا القدر الضئيل من المصالح الروسية لا يستدعي من روسيا أن تحافظ عليه وتتمسك به بالشكل الذي يسبب لها العديد من المشاكل ويسيء لسمعتها لدى شعوب المنطقة.

وعندما اتخذت روسيا مواقفها المعروفة من الثورات الشعبية كانت تعي جيدا أن هذا القدر الضئيل من مصالحها الاقتصادية والتجارية في المنطقة معرض لخطر الزوال، وهذا ليس لأن الأنظمة المعارضة التي ستأتي بها الثورات الشعبية للحكم ستكون بالضرورة ضد روسيا.

ولكن لأن واشنطن والأوروبيين سيجتهدون كعادتهم من أجل استبعاد روسيا والصين أيضا من هذه البلاد، وهذا ما فعلوه ويفعلوه في العراق، وروسيا لا تخشى من شيء سوى من الفوضى العارمة التي ستشهدها بلدان الثورات الشعبية، هذه الفوضى التي لن تكون مختلفة كثيرا عما حدث في العراق، الأمر الذي يعني إخلال بالتوازن الدولي، وهذا ما لا تفكر فيه شعوب الدول العربية المستعدة للتحالف مع الشيطان من أجل إسقاط أنظمتها الحاكمة المستبدة.

روسيا ليست لها مصالح اقتصادية تذكر في ليبيا، ويؤكد ذلك الوعود التي أطلقها العقيد القذافي الشهر الماضي عن نيته استبدال الشركات الغربية في قطاع الطاقة الليبي بشركات روسية وصينية، مما يعني أن البلدين ليس لديهما في ليبيا ما يخشون خسارته.

كما أن وعود القذافي هذه سمعتها موسكو وبكين كثيرا من قبل الثورات الشعبية وعلى مدى السنوات الماضية، لكن الأمور كانت تسير دائما بشكل آخر لصالح الشركات الغربية، وحتى لو انقلبت الأمور وبقي نظام القذافي في الحكم، فلا يوجد أمل لدى روسيا والصين في تحسن أوضاعهما في سوق الطاقة الليبية، بل على العكس من المتوقع أن يعطي القذافي الغرب كل شيء ليضمن رضاه وبقاءه في الحكم.

وبالنسبة لسوريا الأمر لا يختلف كثيرا، وخسائر روسيا الاقتصادية هناك لا تذكر، وحتى الحديث عن صفقات السلاح الروسية لسوريا وأن خسائر صناع الاسلحة الروسية في سوريا قد تبلغ 4 مليارات دولار في حال فرض العقوبات الدولية على توريد الاسلحة إلى سوريا، فهو قول مبالغ فيه ويغفل حقيقة أساسية.

وهي أن روسيا لا تحصل على أموال من سوريا مقابل السلاح، لأنها في الواقع تنازلت عن ديون قديمة لها لدى سوريا تقدر بأكثر من عشرة مليارات من الدولارات، هذا إلى جانب أن مصانع السلاح الروسي لا تعول كثيرا على السوق العربية في الوقت الذي لا تستطيع فيه تنفيذ طلبيات السلاح المطلوبة منها لدول أخرى، وأيضا للجيش الروسي، بسبب عدم كفاية الإنتاج.

لا يستطيع أحد أن يراهن أو يؤكد أن الأنظمة القادمة عن طريق الثورات الشعبية سوف تكون بالضرورة ضد روسيا، بل على العكس، من المفترض أن هذه الأنظمة ستكون أكثر وعيا وأكثر وطنية، وأن الشعوب الثائرة تعلم جيدا أن الأنظمة المستبدة كانت مدعومة بقوة من الغرب وواشنطن، هذا إلى جانب أن المصالح الاقتصادية والتجارية لا تحكمها المشاعر الثورية، بل يحكمها قواعد السوق والمصالح الوطنية.

وإذا كان الأميركان والأوروبيون أنفسهم يلجأون الآن لروسيا والصين يطلبون منهما المساعدات والتعاون معهم في مواجهة الأزمة المالية العالمية، ويعتمد الأوروبيون بشكل شبه مصيري على مصادر الطاقة الروسية، فكيف ستقاطع الدول العربية النامية روسيا والصين في الوقت الذي لا يستطيع فيه الأوروبيون والأميركان مساعدتهم بسبب أزماتهم المتفاقمة.

Email