مهمة لوثر كينغ التي لم تكتمل

ت + ت - الحجم الطبيعي

دُشن النصب التذكاري للدكتور مارتن لوثر كينغ أخيراً، في حديقة "ناشيونال مول" في واشنطن. وبذلك ينضم الدكتور كينغ إلى غيره من رموز أميركا، بمن فيهم لنكولن وجيفرسون وواشنطن وروزفلت. وقد تضمن النصب تمثالاً من الغرانيت، يبلغ ارتفاعه 30 قدماً، ويصور الدكتور كينغ وهو ينظر إلى الأمام بملامح وجه صارمة. إنها نظرة رجل أفعال لم تكتمل مهمته بعد.

وكان الدكتور كينغ رجل سلام لم يتسم بالسلبية، وكان يؤمن بأن مواجهة الغضب يجب أن تسبق المصالحة. فـ"لكي يشفى الجرح، لا بد من سحب شظايا الزجاج منه" بحسب قوله. زعيم المطالبين بالعدالة كان يعي أن السلام يتحقق بوجود العدالة، وليس بغياب الضوضاء. ولا يمكن الحصول عليه إلا عن طريق النضال، وتضافر جهود الأميركيين. إننا ننحني إجلالاً لحلم الدكتور كينغ، الذي لم يكن حالماً خمولاً، حيث كان يحلم بالتغيير. كان يلجأ إلى التظاهر والتفاوض والمواجهة والمصالحة في سبيل تحقيق التغيير.

 لقد نظمت مسيرة واشنطن في مارس عام 1963، في عاصمة كانت لا تزال ملطخة بقوانين التمييز العنصري آنذاك. ولم يتمكن فاني لو هامر، وجيم فارمر، رئيس مجلس المساواة العرقية، وكثيرون غيرهما حينذاك، من المشاركة في المسيرة بسبب وجودهم في السجن. أما أنا، فكان قد أفرج عني للتو بعد سجني لمحاولة استخدام إحدى المكتبات العامة. ومن جميع أنحاء الجنوب، احتشد المتظاهرون الذين لم يكن يسمح لهم باستخدام المرافق العامة. لقد كنا لا نزال ممنوعين من دخول المطاعم والحمامات العمومية والفنادق.

وقد درّس الدكتور كينغ اللاعنف، ولكن اللاعنف لم يعن الاستسلام. فنحن لم نكن نتوانى عن التضحية بأجسادنا. كان يجرد زنزانات السجن والموت من معاني الألم والمعاناة، ولم يكن يعتبر أي تضحية عظيمة إذا كانت في سبيل هدف أسمى منها. إن الحب المثالي يطرد الخوف، ولم يعرف الدكتور كينغ معنى الخوف. وحثنا على رؤية الإنسانية في مضطهدينا، دون أن نرضى بالاضطهاد.

لم يتول الدكتور كينغ أي منصب رسمي، ولم يحاول جمع أية ثروة. وهو لم يكن قديساً، ولكنه كان يسعى في سبيل قضية مقدسة وغاية راسخة. لقد كان زعيماً استثنائياً يعمل على إلهام الناس العاديين، من فقراء وتلاميذ ووزراء وخياطين، فضلاً عن قيامه بمهامه الروتينية اليومية، ومخاطراته البطولية، ومساهماته التاريخية في تحقيق العدالة.

بفضل حركته، شهدت أميركا تحولاً كبيراً. فقد شدد إعلان الاستقلال الذي صاغه توماس جيفرسون، ثالث رؤساء الولايات المتحدة، على التزام أميركا بتوفير الحرية والعدالة للجميع، ومع ذلك، لم يكن السود يعاملون كغيرهم من البشر. لا يمكن للديمقراطية والعبودية أن تتعايشا معاً.

ومن جهة أخرى، أدى نضال أبراهام لنكولن، الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة، إلى محو وصمة العبودية، وأنقذ الاتحاد الفيدرالي. أما حركة كينغ فقد وضعت حداً للتمييز العنصري الأميركي، وقربتنا من الوعد الأميركي، وهو أن يعيش الجميع تحت سقف خيمة أميركية كبيرة، حيث يوفر لهم القانون الحماية اللازمة، ولا يخشى أي منهم أن يتعرض للاعتداء.

ولم يتوقف الدكتور كينغ عند ذلك الحد، فبعد القضاء على التمييز، واصل إقامة المسيرات وإلقاء الخطابات، مما حمل الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون على توقيع قانون حق التصويت. ومع ذلك، لم يتوقف. فانتصر في معارك ملحمية ونضالات دامية، في كل من مونتغومري وبرمنغهام وسيلما وسان أوغستين. واليوم، يحظى الدكتور كينغ بقدر كبير من الحب والاحترام، إلا أنه في أيام حياته، وكغيره من دعاة التغيير، بمن فيهم مانديلا وغاندي، كان يقابل بالكره وتوجيه الإهانات له والاحتقار، حيث كان مكتب التحقيقات الاتحادي يسعى إلى تدميره.

وقد ألقي القبض عليه وتعرض للضرب والإذلال. لقد تملكه التعب، فقد كان يدرك أنه رغم الأشواط التي قطعناها، ما زلنا بحاجة لقطع المزيد. لقد كنا معاً في ساعته الأخيرة، عندما ذهب إلى ممفيس للوقوف إلى جانب عمال الصرف الصحي في إضرابهم للحصول على أجر لائق.

وبالتأكيد، ينبغي لملامحه أن تكون صارمة، لأن عمله لم يكتمل، إذ أن عدم المساواة الذي تعاني منه أميركا اليوم، يفوق ما كانت عليه الحال بعد موت كينغ، نتيجة لتفشي الفقر. وتخوض الولايات المتحدة حالياً ثلاث حروب خارجية، في الوقت الذي تقلص فيه دعمها للمدارس، والمرضى، والرضع داخل حدودها.

هذه الأمة هي في أمس الحاجة لحركة جديدة الآن، تطالب بالعدالة لمواطنين ينطلقون في مسيرة أخرى في سبيل إنقاذها. لقد ساعد الدكتور كينغ على جعل أميركا مكاناً أفضل للجميع، ونحن لا نعطيه التقدير الذي يستحقه بمجرد إقامة تمثال له، بل بالعمل على إنهاء مهمته، من خلال وقف الحروب غير الضرورية، والتخلص من الفقر، ومغادرة واشنطن والعودة إلى منازلنا، مع العزم على المحافظة على إنجازات تحققت بعد أعوام الكفاح والدم والتضحية.

 

 

Email