أعطت الثورات أو الانتفاضات الشعبية التي شهدتها المنطقة العربية فرصة كبيرة لتركيا للعب دور دبلوماسي وإنساني يمكنها من خلاله كسب عقول وقلوب الشعوب العربية، وذلك من أجل خلق مكانة ونفوذ لها في المنطقة العربية. لذلك لم تتوان تركيا عن البروز كداعم للشعب العربي في مصر وثورته ضد نظام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك منذ الوهلة الأولى، كما أنها وقفت مع الشعب الليبي ضد نظام الزعيم معمر القذافي وإن كانت تلك الوقفة لم تكن بسرعة وقفتها مع الشعب المصري إلا أنها تداركت الأمر وأصبحت اليوم داعمة لحكومة المجلس الانتقالي الليبي في بنغازي.

 وعندما اندلعت الانتفاضة السورية ضد نظام الرئيس بشار الأسد وقفت تركيا مع الطرفين ومسكت العصا من الوسط، محاولة من ذلك للحفاظ على شعرة معاوية، وإن كانت صريحة واتخذت بعض المواقف المؤيدة للشعب السوري من خلال فتح أراضيها لاستقبال اللاجئين السوريين الهاربين من ويلات الآلة العسكرية السورية واحتضانها للمعارضة السورية، إلا أن دبلوماسيتها ظلت هادئة في طرحها لتصورها لمستقبل سوريا ومستقبل الوضع هناك حيث بقت هادئة وبعيدة نوعاً ما عن إثارة التوتر والعداء مع النظام السوري.

فلقد أبقت تركيا على علاقتها مع النظام السياسي السوري قائمة حيث انها لم تدعو إلى إسقاط النظام أو رحيله، ولم تتحدث عن فقدان النظام السوري لشرعيته، بل كانت متمسكة بضرورة إجراء إصلاحات سياسية على النظام السياسي السوري وضرورة وقف اندفاع الآلة العسكرية السورية ضد الشعب السوري، حتى أنها وضعت قدراتها أمام النظام السوري لمساعدته في إجراء الإصلاحات السياسية المطلوبة في البلاد. فبالرغم من وقوف تركيا مع مطالب الشعب السوري في التغيير إلا أنها لم تتبن مطلب تغيير النظام أو على الأقل لم تعلن عنه صراحة.

هذا الموقف التركي يأتي متماشياً مع المواقف الدولية المختلفة ولاسيما مواقف الدول العربية التي شجبت ونددت بأعمال العنف التي تجري ضد الشعب السوري على يد الآلة العسكرية السورية، إلا أنها لم تؤيد تغيير النظام أو رحيله. فهي بذلك تبقي الباب مفتوحاً أمام النظام السوري ليجري تعديلات وإصلاحات من شأنها وقف حالة عدم الرضا الشعبي الدائر في سوريا.

إن هذه الدبلوماسية الهادئة التي تتبعها تركيا تجاه الوضع الدائر في سوريا مردها مجموعة من الاعتبارات التي تراها تركيا أنها تصب في صالحها الوطني. فتركيا دولة جارة لسوريا ولديها حدود مشتركة وكذلك هموم مشتركة. فتركيا تتخوف من انفجار الوضع في سوريا إلى درجة أن تجد تركيا نفسها في خضم المعمعة هناك حيث ان توتر الوضع في سوريا قد يؤدي إلى امتداد الاضطرابات إلى داخل الحدود التركية.

فتدفق اللاجئين السوريين بأعداد كبيرة إلى الجانب التركي سيمثل عبئاً على تركيا التي مازالت تعاني من وجود اللاجئين العراقيين فيها. لكن الملف الأكثر تعقيداً والذي يجعل تركيا تفكر كثيراً قبل القدوم على أي تحرك تجاه سوريا هو ملف الأقليات الكردية والعلوية الموجودة في كل من تركيا وسوريا.

فأنقرة تعلم أن عليها دراسة الأمور من جوانبها المختلفة حتى تكون في الجانب السليم عندما يأتي الأمر بإثارة الأكراد في تركيا أو العلويين فيها. فالشريط الحدودي بين الدولتين الذي يمتد لأكثر من ثمانمائة كيلو متر يعيش على طرفيه أعداد كبيرة من الأكراد ومن العلويين الذين قد يثيرهم توتر الأوضاع في سوريا إلى إثارة مطالب لا تخدم مصالح تركيا لاسيما وأن البلدين كانا على وشك الدخول في حروب بينهما بسبب الأكراد، ولعل تركيا تدرك خطورة تأثير حزب العمال الكردستاني في سوريا على الأمن والاستقرار في تركيا.

كما أن تركيا لا يمكن أن تدعم تدخلاً أجنبياً عسكرياً في سوريا لأن من شأن ذلك أن يؤجج مثل تلك الأوضاع وقد يؤدي إلى تقسيم سوريا وهو ما لا يصب في صالح أنقرة على الإطلاق.

لذلك فإن أنقرة تنظر إلى ضرورة احتواء الخطر القائم ومنعه من الانتشار بشكل يؤدي إلى مخاطر وتهديدات كبيرة على الأمن التركي وذلك من خلال تحقيق التوازن بين الجانبين والمحافظة على العلاقة قائمة مع النظام السوري ومع الشعب السوري، هذا ما يفسر لنا إتباع أنقرة الدبلوماسية الهادئة في التعامل مع سوريا وهي الدبلوماسية التي اعتبرها البعض انها دبلوماسية غامضة. ولكن إذا ما انحرفت الأمور عن ما تسعى له تركيا وأدى ذلك إلى دخول البلاد في فوضى أمنية وحرب أهلية فإنها لن تتوانى عن التخلي عن نظام الرئيس بشار الأسد لصالح الوقوف مع الشعب السوري.