حدود التأثير التركي في الأزمة السورية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثفت تركيا تحركاتها لإيجاد مخرج للأزمة في سوريا، وهذه التحركات تسير في اتجاهين؛ الأول اتصالات مع حركات المعارضة السورية وتنظيم مؤتمرات ولقاءات لها في تركيا، من أجل تنظيم صفوفها والبحث عن أرضية مشتركة بينها حول الخروج من الأزمة، والثاني الاتصال بالنظام في سوريا وحثه على القيام بإصلاحات سياسية، والضغط عليه أحياناً من أجل القيام بهذه الإصلاحات.

والمرجح أن تركيا تتحرك في ظل تنسيق ما مع الولايات المتحدة، التي لم تكن تريد في بداية الانتفاضة السورية أن تظهر في الصورة حتى لا تزيد الأمور تعقيداً. وبالطبع فإن تركيا تحركت حتى لا تتدخل الولايات المتحدة في الأزمة السورية، بما يجعل المنطقة المحيطة بها موضعاً لحرب باردة جديدة.

 كذلك فإن تركيا تريد أن تحافظ على نفس المسافة بين أطراف الأزمة السورية، حتى تكون في مرحلة ما وسيطاً مقبولاً من هذه الأطراف، فضلاً عن أن التطورات على الأرض يمكن أن تحسم لصالح أي من هذه الأطراف، وتتطلب ظروف الجوار بين تركيا وسوريا ألا تتأزم العلاقة بين الدولتين، وذلك يتطلب علاقة متميزة أو طبيعية بين تركيا والطرف الذي ستحسم الأزمة لصالحه.

وبالطبع فإن الحل المثالي بالنسبة لتركيا، هو أن تحسم الأزمة عبر صفقة تعقد بين الأطراف المتنازعة، تكون تركيا طرفاً فيها. والصيغة المتوقعة في هذه الحالة، هي أن يجري السلطات السورية إصلاحات جوهرية على النظام السياسي، تكون مرضية للمعارضة، ويستمر النظام الذي تجمعه علاقة قوية مع تركيا ليشرف على عملية تداول سلمي للسلطة، عبر انتخابات تعددية نزيهة وشفافة.

وتركيا تتحرك في الأزمة السورية كمن يسير على حبل مشدود، لأن موقفها معقد وحساس، وهناك اعتبارات متعددة تحد من تحركها، منها ما هو متعلق بقضايا داخلية خاصة بها، ومنها ما هو متعلق بعلاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية، ومنها ما هو متعلق بعلاقاتها مع النظام السوري، ومنها اعتبارات أخلاقية وأخرى حسب تصورها للإقليم المحيط بها واستقراره، ومنها بالطبع ما هو متعلق بعلاقاتها مع فصائل المعارضة السورية وفي مقدمتها حركة الإخوان المسلمين.

وهذه الحساسية وتعقيد الموقف تطرح تساؤلات حول ما إذا كانت تركيا تستطيع التأثير في الأحداث التي تشهدها سوريا حالياً؟ والإجابة عن هذا السؤال تعد صعبة، مثلها مثل الموقف التركي من الأحداث، خاصة وأن الأزمة السورية لها تداعيات على الداخل التركي، فضلاً عن أنها تؤثر في الإقليم المحيط بتركيا، وهي تسعى لأن تصبح دولة مركزية في هذا الإقليم.

ويمكن القول إن تأثير تركيا على الأحداث في سوريا بدا في عدة محاور أساسية، أولها أنها استطاعت عبر جهودها المتعددة وعبر علاقاتها المتميزة مع القوى الدولية، أن تعطل تدويل الأزمة السورية. فمقارنة بسيطة بين ما تشهده سوريا وما تشهده ليبيا، تؤكد أن اهتمام مجلس الأمن بكلتا الأزمتين مختلف بصورة ملحوظة.

ولا نستطيع أن ننكر أن وجود تركيا على خط الأزمة السورية بصورة أكثر وضوحاً، لعب دوراً كبيراً في هذا الأمر. كذلك فإن تركيا عبر احتفاظها بعلاقات على نفس المسافة من أطراف الأزمة، استطاعت أن تدير حوارا مع النظام السوري بهدف إقناعه بإجراء الإصلاحات اللازمة، وإن كانت الإصلاحات التي نفذها حتى الآن أو تلك التي وعد بها لم ترض المعارضة، فضلاً عن أنها إصلاحات جزئية وبطيئة.

ومن المتوقع أنه في مرحلة ما، وبعد أن يقدم النظام السوري الحد الأدنى من الإصلاحات المطلوبة من قبل تركيا، فإن الأخيرة سوف تبدأ في محاولة إقناع المعارضة السورية بهذه الإصلاحات، باعتبارها مرحلة أولى سوف تتلوها مراحل أخرى، بما يحقق الإصلاح الشامل خلال فترة زمنية معقولة.

أي أن التأثير التركي سوف يقتصر فقط على محاولة التقريب بين الأطراف السورية المتنازعة، بما يعيد الاستقرار إلى سوريا وأيضا إلى المنطقة المحيطة بتركيا.

ولابد أن تلي هذه الخطوات خطوة أخرى تتعلق بأن تقنع تركيا العالم الخارجي الذي فرض عقوبات على النظام السوري، بأن هناك تغييراً قد حدث وأن إصلاحاً قد بدأ، وبالتالي هناك حاجة للبدء في رفع العقوبات حتى تصبح مثل المكافأة التي تقدم للنظام مقابل خطواته الإصلاحية، ويمكن أن يتم ذلك تدريجيا أي أن ترفع حزمة من العقوبات مقابل مجموعة من الإصلاحات التي يقوم بها النظام السوري.. وهكذا حتى ترفع العقوبات كاملة مع تنفيذ الإصلاحات كاملة.

وفي كل الأحوال فإن تأثير تركيا في الأحداث السورية ليس مطلقاً، وإنما هو مرتبط بأطراف أخرى ومدى موافقتها أو رفض لما يحدث على الأرض، وكل ما تستطيع أن تقوم به تركيا لا يتعدى تقريب المواقف والتوسط بين الأطراف المختلفة، خاصة وأن هناك عوامل تجعل التأثير الخارجي على الأزمة السورية في حده الأدنى.

فالأحداث متلاحقة، وهو ما يجبر كافة الأطراف على إحداث تعديلات في مواقفها، بصورة دورية تربك حسابات أي وسيط.

والسؤال الذي يرد إلى الذهن، هو طالما أن تركيا تدرك أن تأثيرها في الأزمة السورية محدود، فبماذا نفسر الاهتمام المبالغ فيه بهذه الأزمة، فضلاً عن الخطاب الحاد الذي تتحدث به حولها؟ والإجابة غاية في البساطة، ذلك أن خطابها هو بمثابة تحذير للنظام من مغبة ما سيحدث.

نظراً لأن علاقاتها القوية بالقوى الدولية أعطتها مؤشرات حول ما يمكن أن تتطور إليه الأزمة في المراحل المقبلة. وهي هنا يتحول دورها من الوسيط، إلى دور من يسعى إلى لملمة الأمور قبل أن تتطور، وهذا يحافظ إلى حد كبير على المصالح الإقليمية لتركيا.

Email