الاقتصاد العالمي وأزمة الديون الأميركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحديث الآن يدور في العالم حول مشكلة الديون الأميركية والحلول المؤقته التي اتخذتها الإدارة الأميركية بالاتفاق مع الجمهوريين، وهذا الحديث الدائر في العالم تنقصه الشفافية والصراحة الكاملة، إذ يصور البعض أن المشكلة منحصرة في مسألة رفع سقف الدين الأميركي أو بعض الاستقطاعات من الموازنة الأميركية، وهذا هو جوهر الخداع في الأزمة الحالية، والاتفاق الذي توصل إليه الديمقراطيون والجمهوريون في واشنطن ما هو إلا مجرد مسكن مؤقت سوف ينتهي مفعوله قريبا، وبعده سيصعب اتخاذ قرارات أو إبرام اتفاقات أخرى وستنكشف الحقائق وتنفجر الأزمة الحقيقية التي يحاولون في واشنطن إخفائها.

هذه الأزمة التي على ما يبدو أن العالم كله يخشاها أكثر مما تخشاها واشنطن نفسها، فالأضرار ستصيب الجميع في مشارق ألأرض ومغاربها، والولايات المتحدة بالقطع سوف تكون أكبر المتضررين، ولن تجد دول مثل روسيا والصين، ولا حتى إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية وقتا للشماتة والفرح من الانهيار ألأميركي، لأنه للأسف لشديد سيكون له تداعياته على الجميع بنسب محتلفة، أعلاها على الدول المرتبطة بقوة بالدولار ألأميركي وبصناديق الاستثمار الأميركية.

الأزمة الأميركية سياسية واقتصادية في آن واحد، وقد عبر عن ذلك المفكر الأميركي المعروف ناعوم تشومسكي في آخر مقالاته منذ أيان حيث قال أن مؤشرات انهيار أميركا قد ظهرت بوضوح و أن المشهد القادم مرعب للجميع، حتى للشركات العملاقة التي سينهار الصرح الكبير فوق رأسها، وقال تشومسكي أن تركيز الثروة أنتج قوة سياسية أكبر، وهو ما أنشأ دائرة مغلقة جهنمية قادت إلى تجمع كمية كبيرة من الثروة بيد 1% من السكان، وهم أساسا المديرون التنفيذيون لكبار الشركات، بينما استقرت مداخيل الأغلبية في القاع.

هذا الشكل الذي يصوره تشومسكي معناه أن السياسة الأميركية مستمرة بلا توقف في أخطائها، ولا أمل في تراجعها، والأثرياء لن يسددوا ديون أميركا، بينما الشعب الأميركي نفسه مفلس تماما.

اليمين الأميركي داخل الحزب الجمهوري يريد من أوباما تخفيض النفقات الاجتماعية كحل لتفادي عجز الميزانية، بينما أوباما وإدارته يرون أن هذا لا يكفي، بل لابد من فرض ضرائب عالية على الأغنياء، وقد يتصور البعض أن هذه هي نقطة الخلاف المحورية بين الاثنين، والتي لو تم حلها بالتوافق بينهما فسوف تحل أزمة الديون ألأميركية، ولكن واقع الحال أن كلا الطرفين يخفيان الحقيقة التي يعرفها الجميع، وهي أن الإنفاق العسكري هو السبب الرئيسي وراء تضخم المديونية الأميركية، ولكن كلا الطرفين الديمقراطي والجمهوري لا يريدان الاقتراب من الإنفاق العسكري، ويعتبرانه قدس الأقداس، وهذا في حد ذاته يكشف زيف منظومة الديمقراطية الأميركية القائمة على مدى قرابة قرن من الزمان على حزبين يختلفان فيما بينهما في القضايا الثانوية بينما يلتقيان في جبهة واحدة في القضية الجوهرية.

إذا كان هذا هو شأن السياسة الأميركية الداخلية فما ذنب العالم لكي يدفع ثمن أخطاء هذه السياسة، هل ذنبه أنه تعلق بالاقتصاد ألأميركي وربط نفسه بالدولار، وماذا عاد عليه من ذلك؟، لقد ارتفعت أميركا وأصبحت سيدة العالم، ولكن العالم لم يرتفع معها، ولكنها عندما تنهار الآن سينهار معها العالم، إنهم في واشنطن يبدون عدم الاهتمام والاستخفاف بقرار وكالة «ستاندرد اند بورز» الذي أفاد بفقدان الولايات المتحدة تصنيفها الائتماني الممتاز «أي.أي.أي» الذي منحته إياها الوكالة من قبل، بسبب مخاوف حول عجز الموازنة الحكومية وارتفاع أعباء الديون، معبرة عن عدم رضاها عن القانون الذي أقره الكونغرس حول رفع سقف الدين الأميرك، رغم أن قرار هذه الوكالة العالمية الذي خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة بدرجة واحدة فقط أحدث زلزالا في أسواق المال العالمية، فماذا سيحدث في المستقبل القريب عندما يزداد عجز الميزانية الأميركية وينخفض التصنيف الائتماني درجات أخرى؟.

كبار الخبراء الاقتصاديين والماليين في العالم يجمعون على أن أزمة الاقتصاد الأميركي ستنفجر عاجلا أو آجلا، ورأى عدد من الخبراء ان قرار وكالة «ستاندرد اند بورز» خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة كان قراراً قاسياً، ولكنه عقوبة منطقية لواشنطن، بسبب عجزها عن التحكم في ديونها المتزايدة بشكل كبير.

قد يكون مفيدا للعالم أن تنفجر الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة حتى يتطهر الاقتصاد الأميركي من عيوبه المتراكمة علىه منذ عقود طويلة مضت، ولكن هذا التطهير في حد ذاته ستكون له تداعيات كارثية على اقتصاديات وشعوب العالم، وسيحتاج الاقتصاد العالمي لسنوات وربما لعقود من الزمن حتى يستعيد قوته على أسس ونظريات جديدة تماما سوف تتغير معها خريطة موازين القوى الاقتصادية والسياسية أيضا في العالم كله.

Email