معظمنا في أول يوم من أيام رمضان المبارك آثر الإفطار في بيته، قرب أهله وأطفاله، ليس فقط من أجل تعزيز أواصر وسلوكيات يستدعيها رمضان في أذهاننا، ولكن أيضاً لأن أول أيام الصيام أصعبها وأكثرها شدة على الصائم، فهو اليوم الذي تتبدل فيه العادات ويجتهد فيه الكثيرون من أجل صفاء نفوسهم وجليها كي تكون قريبة من الذي فطرها.
لكنه هو آثر أن يذهب حتى أقصى بقعة في شرق البلاد، تاركاً وراءه أهله وأولاده وبيته ومائدته العامرة بأطيب أنواع الطعام، ليشارك فئة من الناس مائدتهم البسيطة وليجعل شمساً من الفرح تشرق في نفوسهم لحظة غروب شمس النهار.
هكذا شعرت حين وصلني خبر إفطار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في أول يوم رمضاني مع العاملين في مستشفى الفجيرة، وحين رأيت إشراقة الابتسامة على وجوه أولئك الأفراد، والذين ينتمون اليوم إلى إحدى المؤسسات التي هي بأمس الحاجة إلى أن تعاد صياغتها في الدولة، وأن تعطى الكثير من الدعم والرعاية، أدركت أهمية تلك الزيارة في نفوس أولئك الناس.
والذين كانت ابتساماتهم جلية على وجوهم وعاكسة شكلًا من أشكال الفرح الصادق والأمل أيضاً، ولعلهم شعروا في تلك الزيارة بأن هناك من يعنى بهم ومن جاء في أول يوم صيامهم ليريهم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولهذا كانت الابتسامة على وجوهم صافية كنفوس من صاموا لله إيماناً واحتساباً، وكانت ملامحهم تشعر الناظر إليها بأن هذه الزيارة التي حظوا بها تحمل إليهم الكثير من الأمل والتفاؤل في جعل البعيد من الطموحات قريباً منهم وقابلاً للتحقق.
استعادت زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد تلك للعاملين في مستشفى الفجيرة صورة مرسومة في ذهني لجده الشيخ سعيد بن مكتوم رحمه الله من خلال روايات من عاصروه وعرفوه عن قرب. تلك الصورة التي روي لنا فيها كيف أن ذلك الشيخ الجليل كان يذهب لمسجده قبل صلاة الفجر بوقت طويل كي يخرج الماء بالدلو من بئر المسجد ويصبه في الأوعية المعدة له، حتى يجد المصلون ماء الوضوء جاهزاً لهم حين يأتون لصلاة الفجر، فلا يتكبدوا عناء جلبه من البئر وقت الصلاة بأنفسهم. ويكفي أن ننظر في صورة الشيخ سعيد.
من خلال بعض الصور التي بقيت له، نحن الذين لم نحظ برؤيته، لنرى شكلاً يقربك من رؤية كيف يصبح الإنسان شديد الشفافية، حتى يخال إليك أن نظرتك تخترق ما وراءه، على الرغم من أنك ترى في الصورة جسداً، وجسداً تستره الملابس، لكن شيئاً ما فيه يشعرك بشفافيته ويشعرك بسمو نفسه التي كانت من النفوس التي تقربت لله بتقواها فقربها إليه، وجعل رمز قربه منها نوراً له يراه الناظر في وجهه ويستشفه من يقترب منه.
إن ذهاب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في أول يوم رمضاني للإفطار مع العاملين في مستشفى الفجيرة في نظري كان به أثر كبير من جده ومن سلوكياته، على الرغم من أنها، ظاهراً، قد تحمل معنى الاهتمام بالفئات التي هي بحاجة اليوم، أكثر من أي يوم آخر، أن تعطى المكانة التي تستحقها وأن تولى اهتماماً ورعاية كبيرين، لأنها هي أيضاً مناط بها أن تعطي الرعاية والاهتمام للناس، لكنني وجدت بعداً آخر في هذه الزيارة.
وما يجعلني أقول ان فيها أثراً من آثار الشيخ سعيد، واستدعاءً لشخصه وصورته، حكاية روتها لي حفيدة الشيخ الجليل محمد نور، وهو شيخ معروف في الإمارات ومعروف أيضاً في مكة والمدينة ومناطق أخرى من الجزيرة العربية، للمكانة العلمية والدينية الكبيرة التي كان يتمتع بها.
تقول تلك الحفيدة إن جدها كان في إحدى زياراته لمجلس الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، وأنهم كانوا يتحدثون في أمور كثيرة، ثم قال الشيخ محمد نور للشيخ راشد لم لا تقول لأبنائك ممن لم يطلقوا لحاهم أن يطلقوها، ألا ترى هذا الفتى، وأشار إلى الشيخ محمد، وقال إنني أتوسم فيه خيراً كثيراً.
والمعروف عن الشيخ محمد نور أنه كان كثير التحيز لإطلاق اللحى بين الرجال نظراً لأنه يرى في الأمر إتباعاً لسنة المصطفى عليه السلام، فرد عليه الشيخ راشد، وهو يتبسم، كما تروي حفيدة الشيخ، وقال له، ولكنك لا تعرف هذا الفتى جيداً فهو في داخله «مب سهل» (وهذه عبارة تقال عندنا للتعبير عن خفايا الأمور عند الشخص) فرد عليه الشيخ محمد نور قائلًا «لا علي من كلامك، إنني أرى فيه خيراً كثيراً».
والحقيقة أن الذي يعرف أبناء الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، عن قرب، يعرف في واقع الأمر أنهم جميعاً، ودون استثناء، يحملون خيراً كثيراً في نفوسهم ودمغة جلية من تقوى الشيخ سعيد بن مكتوم وروحه، رحمه الله، وأنهم جميعاً «فيهم خير»، ولا أظن أن نظرة الشيخ محمد نور وقتها، وهو المعروف بعمق نظرته وبفطنته الكبيرة وبفراسته، كانت، أو ستكون خائبة، فهناك أناس خصهم الله بالقدرة على استشفاف الأمور وبمعرفة لا تتاح لغيرهم في استجلاء ما سيأتي به الزمن، وكان الشيخ واحداً منهم في اعتقادي.
ولعل هذا الأمر هو ما يجعلنا، في هذا الزمن العربي الذي نعيش فيه حالة كبيرة من اللا استقرار ومن المذابح والحروب والتشتت والفوضى، نبحث عن قيادات تحمل خيراً في نفوسها للناس، وتبحث فيما يساعد على أمانهم واستقرارهم والحفاظ على عزتهم وكرامتهم، وحين نرى موقفاً كمثل موقف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، الذي ترك بيته وراحته في أول يوم في رمضان ليذهب للإفطار مع موظفي مستشفى الفجيرة البعيد، نشعر أن جذوة الأمل في نفوسنا لا تزال باقية.
وأن هذه الأمة التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس ستبقى في خير، ما دام هناك من أبنائها وقادتها من في نفوسهم خير، ولمحمد بن راشد ندعو بأن لا يطفئ الله جذوة الخير في نفسه وأن يجعله ممن ينهضون بأمته ويعيدون لها مجداً تشوقت إليه وأن يسخر لدربه خيرة عباده. وعسى أن تكون دعوانا في هذا الشهر الفضيل مستجابة بإذنه تعالى.