تركيا والثورات العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أعطت الثورات العربية لتركيا الفرصة لكي توسع من وزنها الإقليمي، حيث ان القادة الأتراك استطاعوا استثمار هذه الثورات من اجل مداعبة عواطف الجماهير العربية الثائرة، بالحديث إلى قادة بعض الدول بضرورة إحداث إصلاحات سياسية في بلادهم، أو ضرورة رحيل قادة آخرين ثارت الشعوب ضدهم. وقد برز الدور التركي في التنسيق مع الدول الغربية الرئيسية حول بحث سبل الخروج من مأزق الثورات العربية خروجا آمنا يحفظ مصالح الغرب وفي الوقت نفسه يحقق طموحات الشعوب في المزيد من الحرية.

والملاحظ أن السياسيين الأتراك تحركوا في أكثر من اتجاه خلال هذه الثورات ليس فقط على صعيد التصريحات المؤيدة لإعطاء الحرية للشعوب في اختيار قياداتها، ولا في المباحثات التي أجريت مع قادة ودبلوماسيين غربيين حول الأوضاع القائمة في الدول العربية وإنما تحركات تجاه العواصم التي تشهد انتفاضات شعبية.

والحديث ليس فقط مع قادة الدول وإنما مع قادة معارضين كما حدث في لبيبا وكما حدث عندما استضافت اسطنبول مؤتمرا للمعارضة السورية، وبدا وكأن المنطقة تشهد مرحلة إعادة ترتيب تلعب فيها تركيا دورا رئيسا، وهذا أمر صحيح إلى حد ما ولكن تركيا تدرك أن الشعوب هي من تصنع مستقبل المنطقة، لكنها تريد أن تحافظ على مصالحها ودورها المركزي في مرحلة السيولة التي تشهدها المنطقة في الوقت الراهن.

ويمكن القول ان تركيا تتحرك وفقا لثلاثة أهداف فيما يتعلق بما تشهده دول المنطقة من انتفاضات وثورات، الهدف الأول هو أنها تدرك أن الأنظمة سوف تتغير وهي تريد أن تفتح باب للعلاقة مع الأنظمة الجديدة، أي أنها لا تتحرك وفقا لمفهوم وضع البيض كله في سلة الأنظمة الحاكمة وإنما تفتح خطا ما للعلاقة مع المعارضة التي ستتولى الحكم في مرحلة ما بعد نجاح الانتفاضة.

وفي هذا الصدد ترى تركيا أن العلاقة مع الأنظمة الديمقراطية أبقى وأكثر استقرارا منها مع الأنظمة الاستبدادية. فضلا عن ذلك فإن تركيا ترى أيضا أنها يمكن أن تكون نموذجا تحتذيه الدول العربية وهي تعيد بناء نظامها السياسي خاصة فيما يتعلق بالمزج بين الإسلام والديمقراطية وبينه وبين الحداثة السياسية.

والهدف الثاني هو أن تركيا تدرك أن دخولها على خط الانتفاضات العربية سيحول دون دخول قوى أكثر راديكالية مثل إيران على نفس الخط، الأمر الذي يحول تحول المنطقة تجاه الراديكالية وهو ما يتعارض مع مصالح تركيا الإقليمية ومع مصالح حلفائها الدوليين.

فتركيا بتدخلها تتحكم بصورة ما في توجه الانتفاضات وتعزز من وزن ودور القوى المعارضة المعتدلة، وتحول دون تدخل إيران لمصلحة حلفائها الراديكاليين. أي أن تركيا بتدخلها تسعى للحفاظ على توازنات إقليمية في المنطقة، والى الحيلولة دون تحول المنطقة الى الراديكالية، وهو الأمر المتوقع في ظل ما تشهده المنطقة من انتفاضات وثورات، ويبدو أن تركيا ناجحة إلى حد كبير في تحقيق هذا الهدف حتى الآن.

أما الهدف الثالث فهو أن تركيا تريد أن تحافظ على مصالحها الأمنية والاقتصادية مع الدول التي تشهد الانتفاضات والثورات، وهنا نشير الى كل من سوريا التي تعد من دول الجوار الجغرافي لتركيا والتي يمكن أن يؤدي نزوح اللاجئين منها الى تركيا الى تهديد الأمن القومي التركي، والى ليبيا التي تعد من الشركاء الاقتصاديين الكبار لتركيا، وتركيا استطاعت بالنسبة للأولى أن تتحكم في حركة نزوح اللاجئين عبر فتح معسكرات لهم على الحدود، وبالنسبة للثانية استطاعت أن تنسج علاقة مع المجلس الانتقالي بما يحافظ على مصالحها الاقتصادية في المرحلة المقبلة سواء نجحت الانتفاضة الليبية أم لم تنجح.

ولكن هناك نقطة جديرة بالإشارة ونحن نتحدث عن تركيا والانتفاضات العربية، وهي ما سوف تحدثه التغييرات السياسية التي سوف تشهدها بعض الدول العربية من تأثير على الدور الاقليمي التركي، فأحد الأسباب الأساسية لتوسع الدور الاقليمي التركي هو تراجع الدور المصري، فدخلت تركيا لسد الفراغ الذي تركته مصر.

خاصة وان هذا الدور كان يحمل بعدا مذهبيا يتمثل في الدفاع عن وحماية مصالح السنة في المنطقة في ظل وجود نفوذ سياسي شيعي يتمثل في الدور الايراني الذي ترى بعض دول المنطقة انه توسعي. وبعدما تعيد مصر بناء نظامها السياسي سوف تجد تركيا انها في منافسة شديدة معها حول النفوذ والدور، وسوف يتوقف حسم الصراع على موقف الدول السنية في المنطقة ومن سوف ترتضيه للقيام بدور مركزي في حماية مصالحها، وهناك من يرى أن الدول العربية سوف تختار مصر بحكم التاريخ من جهة، وبحكم العروبة من جهة ثانية، وهو ما يعني أن الثورات العربية على المدى الطويل سوف تؤثر على الدور الاقليمي لتركيا.

يضاف الى ما سبق أن تركيا بحكم استقرارها السياسي تحت حكم حزب العدالة والتنمية كانت الدولة الأكثر جذبا للاستثمارات في منطقة الشرق الأوسط، والآن وبعد الثورات العربية وبعد الاستقرار السياسي في كل من مصر وتونس فإن جزءا من الاستثمارات الأجنبية والعربية سوف يتجه اليهما خصما من تركيا، الأمر الذي يعني أن هذه الانتفاضات والثورات على المدى سوف تؤثر اقتصاديا على تركيا. وكل ذلك يعني أن تركيا عليها أن تبحث عن استراتيجية متعددة الأوجه للتعامل مع الثورات العربية حتى تستفيد من إيجابيتها وتتجنب السلبيات التي يمكن أن تصيبها من هذه الثورات.

Email