روسيا تعاني الابتزاز والجحود

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعاني روسيا من ظاهرة سلبية للغاية ورثتها عن الاتحاد السوفييتي السابق، هذه الظاهرة تتمثل في أن الكثير من الدول اعتادت أن تحصل على الكثير من روسيا بدون مقابل، أو بمقابل زهيد أقل بكثير من قيمة ما يحصلون عليه، والبعض يعتبر أن هذه كانت من أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وهي الإنفاق الكبير على الدول الأخرى وإهمال الجمهوريات السوفييتية الداخلية، وربما يكون في هذا الرأي شيء من الصحة، خاصة وأن الاتحاد السوفييتي قام بالفعل ببناء وتنمية دول في أفريقيا وأميركا اللاتينية واسيا كانت تعيش في مستوى متدن للغاية، وبنى العديد من مشاريع الري والطاقة في أكثر من أربعين دولة في العالم تقريبا بدون مقابل يذكر.

كما كانت العديد من الدول تحصل على مصادر الطاقة من النفط والغاز السوفييتي بدون مقابل، ومنها دول أوروبية، وإذا كان هذا الماضي قد ذهب بلا رجعة فإن رواسبه مازالت موجودة في عقيدة الكثير من الدول في تعاملهم مع روسيا الحديثة، وخاصة جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، هذه الجمهوريات التي هللت لسقوط الاتحاد السوفييتي وخرجت شعوبها تهتف "مرحبا بالحرية "، وذهبت في حقبة التسعينات من القرن الماضي تهرول نحو الغرب وأوروبا وتعطي ظهرها تماما لموسكو، ثم فجأة تغيرت الأوضاع.

وعادت هذه الجمهوريات تتطلع إلى روسيا مع انكشاف حقيقة الديمقراطية والحرية الغربية التي لم تطعم الشعوب بشيء بل زادتهم فقرا، ومع اندلاع الأزمة المالية العالمية، وانشغال الأوروبيين بمشاكلهم معها، وكذلك انشغال الولايات المتحدة وعزوفها عن تقديم المساعدات للآخرين، عادت الجمهوريات السوفييتية السابقة للجارة الأم تعتذر لها وتطلب منها المساعدات في الأزمة، وحتى الجمهوريات التي كان يحكمها أنظمة مناهضة ومضادة لموسكو أزاحت أنظمتها واستبدلتها بأنظمة أخرى موالية لموسكو، مثل أوكرانيا وقيرغيزيا ومولدافيا وغيرهم.

حديثنا هذا يتطرق بنا إلى أزمة حديثة بين روسيا وجمهورية سوفييتية سابقة ليست من الصنف الذي تحدثنا عنه، إنها جمهورية روسيا البيضاء " بيلاروسيا" التي لم ترحب بانهيار الاتحاد السوفييتي، ولم تبتعد عن روسيا وظلت مرتبطة بموسكو دائما ومتفقة معها في الكثير من توجهاتها، وسعت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي إلى تأسيس اتحاد آخر مع روسيا، لكن رغم هذا الانجذاب والتقارب، إلا أن بيلاروسيا تمارس مع موسكو نفس السياسات التي تمارسها الجمهوريات والدول الأخرى، بل بشكل أحيانا أسوأ بكثير، فهي تتعامل مع موسكو بطريقة أقرب إلى الابتزاز منها للمساعدات، ورغم أنها تحصل من روسيا على مصادر الطاقة وغيرها بنفس أسعار السوق الروسية الداخلية، إلا أنها تريد ما هو أكثر من ذلك.

لقد توترت العلاقات بين روسيا وبيلاروسيا، على خلفية عدم تسديد الديون المترتبة على مينسك عن الطاقة الكهربائية المستوردة من روسيا، الأمر الذي قررت معه شركة الكهرباء الروسية قطع التيار الكهربائي عن بيلاروسيا، قامت مينسك بسداد جزء من الدين، وتمت إعادة التيار الكهربائي والاتفاق على موعد لسداد الجزء المتبقي من الدين، ولم يتم السداد في الموعد المحدد، مما اضطر الشركة الروسية لإعادة قطع التيار الكهربائي، علما بأن مينسك لم تقم بسداد ديونها عن الطاقة الكهربائية لروسيا في موعدها أبدا، بل اعتادت الدفع المؤجل وبأجزاء صغيرة من الدين، بحيث تراكمت عليها ديون كثيرة اعتقدت الحكومة أن موسكو ستعفيها منها يوما ما بحكم العلاقات بينهما، وهذا الأسلوب استخدمته بيلاروسيا مع روسيا في مجالات أخرى غير الطاقة الكهربائية مثل النفط والغاز وغيرها، الأمر الذي اضطر شركة الكهرباء الروسية للجوء لقطع التيار مرة أخرى.

لقد استغلت جهات كثيرة هذا الأمر لنشر الدعاية المضادة لروسيا في العالم، حيث خرجت العديد من وسائل الإعلام الغربية وغيرها تقول ان موسكو تستغل مصادر الطاقة في إخضاع جيرانها من الدول الفقيرة لنفوذها، وكتب البعض يصور القضية وكأنها مأساة شعب صغير يخضع لدولة كبيرة مستبدة، في حين أن ما تستورده بيلاروسيا من الكهرباء من روسيا لا يزيد عن 400-500 ميغاواط، في الوقت الذي تستهلك بيلاروسيا ما مقداره 37 مليار كيلوواط/سا، تنتج منه محلياً 34 مليار كيلوواط/سا، وتبلغ الطاقة الإنتاجية من الكهرباء في بيلاروسيا 8 آلاف ميغاواط، يحصل عليها من محطتين كهربائيتين مكثفتين، و32 محطة كهروحرارية و19 محطة كهرومائية، وما يقارب 1.3 ألف مولدة محلية، أي أن قطع التيار الكهربائي من قبل روسيا ليس له تأثير يذكر، ولكن سياسة الابتزاز التي تمارس من قبل العديد من الدول مع روسيا منذ زمن الاتحاد السوفييتي مازالت هي السائدة.

ورغم هذا كله، خضعت روسيا واستأنفت الشركة الروسية الحكومية توريد الكهرباء إلى بيلاروسيا بأوامر مباشرة من الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف الذي طالما عانى من هجوم رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشنكو عليه وانتقاده الحاد لسياساته، وكأن قدر روسيا أن تظل الأم الكبيرة الحنون على الجميع رغم جحود الكثيرين ونكرانهم لها.

Email