قرأ الكثيرون الزخرفة الإسلامية وخاصة تلك التي تمثل أشكالا هندسية متكررة, على أنها متسمة بعدم التعقيد وبالبساطة, وفي بعض الأحيان, بأنها تعكس ذهنية غير معقدة وغير عميقة للفنان المسلم، في حين رآها البعض الآخر على أنها محاولة للبعد عن التجسيد، واتخاذ التجريد منهاجا في الرسم الإسلامي, وذلك تحاشيا لما يمكن أن يحيلنا التجسيد إليه من جدل ومن حرج حول التصوير, والذي ربما يعني الدخول إلى مناطق حظرها الدين الإسلامي.
ولقد بقيت هذه التفسيرات للفنون الإسلامية عالقة في ذهني، إلى أن قادتني قراءاتي في علم الدلالة إلى بحث في الفنون الإسلامية للمستشرق الكبير بوركهارت, وفيه يربط هذا العالم بين الفنون الإسلامية وبين البعد الفكري في الإسلام، وكيف أن تكرار الشكل الهندسي في الزخرفة الإسلامية يحيلنا إلى مفهوم أن الله "الواحد" هو الذي أنتج "الكثرة" في الكون.
إن في التراث العربي والإسلامي, بل أيضا في التراث الإنساني بشكل عام, جهودا أخرجت الكثير من البشر من تخوم العادية إلى الغوص في عمق الأشياء لاستنباط المعاني الكامنة فيها. وفي قصة يوسف عليه السلام كما يحيلنا الشيخ الأكبر ابن عربي, صيغ متعددة تعيننا على فهم الدور الذي يلعبه استنباط المعنى الكامن في الحكايات وفي النصوص.
ففي تلك القصة هناك ما يعلمنا أن الأحلام هي عبارة عن رموز وأن هذه الرموز تستدعي التأويل, حتى يكون بالإمكان استنباط المعاني الكامنة فيها. أي أن في هذه الرموز دلالات تحيلنا إلى إدراك الواقع والتعرف عليه بشكل كبير لا بل هي تعرفنا أيضا بحوادث لم تقع بعد وعلينا أن نستعد لها, كما تعرفنا على أن التأويل يخرجنا من الفهم السطحي إلى الفهم العميق للأشياء, أو كما يقول الشيخ الأكبر؛ يخرجنا من حالة الموت إلى حالة الحياة.
وفي التراث العربي أيضا نكتشف علم الفراسة, وهو علم, كما يعرفه ويعرّفه علماؤنا, يقودنا إلى التعرف على الإنسان ودواخله والخصائص المرتبطة بشخصيته، من خلال ملامح وجهه وبالتالي يستعان بهذا العلم لتحديد ما نتوقعه من الإنسان في مجالات كثيرة. وهناك حكاية قرأتها مرة عن الإمام الشافعي, أن الإمام رضي الله عنه أراد تعلم هذا العلم, وقادته تلك الرغبة في الذهاب إلى اليمن حيث كان يوجد بعض الضالعين في هذا العلم، وفي طريق عودة الإمام من اليمن.
وكان بحاجة إلى مكان يبيت فيه, التقى بشخص رحب به ودعاه إلى المبيت في بيته, وقد كان الإمام, في رؤيته الأولى لملامح ذلك الشخص, غير مرتاح لطبيعته, غير أنه لام نفسه على ذلك الشعور حين رأى من الشخص ترحيبا كبيرا وبعدها ذهب للمبيت عنده, وحين أصبح, جاء الرجل للإمام بالإفطار واعتنى به مما زاد من حالة اللوم في نفسه, وكذلك الشك من أنه قد استفاد من العلم الذي ذهب في تحصيله. وحين هم الإمام بمغادرة المكان قال له الرجل: وأين أجرتي على المبيت والأكل الذي أكلته؟ عندها أدرك الإمام أن رحلته والجهد الذي بذله فيها لم يضع هباء.
في الصين, أيضا, كان هذا العلم واحدا من العلوم الهامة في تراثهم القديم خاصة, حيث كان يستعان به في قراءة ملامح وجه الإنسان من أجل تحديد نوع العمل المراد تكليفه به, مثلما يستعان به في معرفة ما تحمله نفسه من خصائص. وهذا العلم لا يزال موجودا حتى اليوم عند الكثير من المهتمين بتراث الصين القديم وعلومه.
من جانب آخر, قادت الدراسات في مجال اللغة والأدب عند العرب القدامى, وعلى رأسهم الجرجاني والجاحظ, وغيرهما من العلماء, إلى التبحر في ما عنته المعاني في الكلمات, وإلى ماذا تحيلنا جملها. ولقد عمقوا بذلك المعرفة الخاصة بهذا النوع من الدراسات وأثروها، مما أسهم لاحقا في إغناء الكثير من الدراسات في علم المعاني، أو الدلالات, والتي قد استفادت مما أسهم به هؤلاء الرواد وسعت نحو تطبيقه في مجالات عدة, ومنها مجالات الكتابة والنصوص الأدبية. ثم تطورت الاستفادة لاحقا لتشمل قراءة دلالات الرموز في مجالات الفنون البصرية والتعبيرية المختلفة, ومنها الصور والمعمار، وحتى التعبيرات الجسدية والملابس.
الإعلام, كمجال منتج ومصدر للمعاني, شكل لاحقا حقلا هاما لمثل هذه الدراسات, مثلما استفاد من تطبيقاتها في مجالي الصورة والخطاب اللغوي (جدير بالذكر أن الصورة, في هذا الحقل, قد تم التعامل معها على أنها شكل من أشكال "الخطاب"، وبذلك استفاد الإعلام في ناحيتين؛ فك الشيفرات أو الرسائل البصرية الموجودة في الصورة, وتضمين الصورة ما تتطلب الرسالة الإعلامية تضمينه فيها).
والسؤال الذي يقودنا إليه موضوعنا في نهايته، هو؛ هل استفادت وسائلنا الإعلامية المحلية من هذا العلم, أم هي بعيدة عنه بعدا كبيرا؟
الإجابة سنبقيها لكم, لكن سأحيلكم على بعض العناوين التي لفتت نظري هذا الأسبوع، ونحاول الاقتراب من دلالاتها. العنوان الأول في واحدة من صحفنا يقول: "محمد بن راشد يوجه ببناء وتأهيل الكوادر الوطنية وتسليحها بالمهارات والثقة بالنفس"، والمعنى الذي يحيلنا إليه هذا العنوان هو أن الكوادر الوطنية تفتقر إلى مثل هذه الأمور, وهذا المعنى لا أظنه موجودا في ذهن الشيخ محمد, ليس لأنه هو من الكوادر الوطنية شديدة التميز, ولكن لأن غالبية الكوادر التي تعمل معه هي من الكوادر الوطنية.
عنوان آخر لفت انتباهي بشدة أيضا في إحدى صحفنا، وهو: "محمد بن راشد يوجه بإشراك المواطنين في التنمية والتطوير"، والمعنى الذي يحيلنا إليه هذا العنوان هو أن المواطنين غير مشمولين في عملية التنمية والتطوير, وهذا ليس هو الواقع بأي حال من الأحوال.
هذه نماذج تقربنا من قراءة المعاني في الخطاب الإعلامي والسؤال هو: إن كانت هذه الصيغة موجودة على مستوى الخطاب اللغوي، فكيف نتوقع أن يكون الحال في الرسالة البصرية؟