أفغانستان تثبت أن بدء الحرب أسهل بكثير من إنهائها

ت + ت - الحجم الطبيعي

جاء إعلان الرئيس أوباما مؤخرا، عن اعتزامه إصدار الأوامر بخفض حجم القوات الأمريكية المنتشرة في أفغانستان، والتي يتجاوز عددها 100 ألف جندي، بحلول نهاية السنة، ليذكرنا مرة أخرى بأن بدء أي حرب أسهل بكثير من إنهائها.

 لا بل إن أفغانستان تقدم دراسة حالة نموذجية لهذه الحقيقة البديهية، وذلك رغم حقيقة أن هناك الآن إجماعاً واضحاً ومتزايداً على نطاق واسع في أميركا، حول أهمية خروجنا من أفغانستان. والحقيقة أن البيئة السياسية الآن مواتية جداً لوفاء الرئيس بالعهد الذي قطعه على نفسه في ديسمبر 2009، بـ"البدء في إخراج القوات الأميركية من أفغانستان في يوليو 2011".

أولاً، من الواضح أن الشعب الأمريكي قد تحول ضد الحرب، فقد أظهر استطلاع حديث للرأي أجرته محطة "سي إن إن" الإخبارية بالتعاون مع مؤسسة "ريسيرتش أوبينيون"، أن 62% من الأميركيين يعارضون الآن الحرب في أفغانستان، بينما يؤيدها 36% فقط. وفي الاستطلاع نفسه قال 74% إنهم يؤيدون سحب كل أو بعض الجنود، بينما قال 24% فقط إن على أميركا الإبقاء على نفس العدد أو إرسال المزيد من الجنود إلى أفغانستان.

وهذا الإجماع بالأغلبية الساحقة، بدأ أخيراً يجد صدى في واشنطن. فقبل أيام وقع 27 سيناتوراً على رسالة موجهة إلى الرئيس، يطالبونه فيها بإصدار أوامره بتنفيذ "خفض كبير ومستدام" في تعداد القوات الأميركية في أفغانستان هذا الشهر. وتصدّر هذه المبادرة ثلاثة سيناتورات من كلا الحزبين: الجمهوري مايك لي، والديمقراطيين جيف ميركلي، وتوم يودال. وجاء في الرسالة أن "تكاليف إطالة أمد الحرب تفوق بكثير الفوائد المرجوة منها، وقد آن للولايات المتحدة أن تغير مسارها في أفغانستان".

وهناك أيضاً تشكيك متزايد في جدوى الاستمرار في هذه الحرب، من جانب الساسة الجمهوريين الطامحين للترشح لسباق الانتخابات الرئاسية. فبعد إعلان ترشحه على المقعد الجمهوري في انتخابات الرئاسة المقبلة، تحدث جون هانسمان، الحاكم الأسبق لولاية يوتا، عن الحاجة "لإخراج الجنود الأميركيين من أفغانستان بشكل أسرع". وفي جولة المناظرات الجمهورية التي جرت مؤخراً في نيوهامشر، صرح ميت رومني: "إن الوقت قد حان لنعيد جنودنا إلى أرض الوطن بأسرع ما يمكن، وبالتناغم مع ما يقوله جنرالاتنا".

ثم جاء القرار، الذي تم تمريره قبل أيام في المؤتمر الأميركي لرؤساء البلديات، والذي يدعو إلى إعادة توجيه الأموال التي تنفق الآن في العراق وأفغانستان، إلى ميزانيات المدن الأميركية التي تدمرها التخفيضات الهائلة في ميزانياتها الفدرالية. وقالت رئيسة المؤتمر إليزابيث كاوتس، عمدة بلدة بورنسفيل في ولاية مينوسيتا، إن البلاد بحاجة إلى "إعادة الاستثمار في تلك الجهود التي ستساعدنا للمحافظة على فرص العمل الحالية، وخلق فرص عمل جديدة للأميركيين".

ومن شأن تلك الأموال، إذا تمت إعادة توجيهها للوطن، أن تساعد على التعويض عن قيام الحكومة الفدرالية "بسحب يدها" من الحكومات المحلية، كما يقول مايكل ناتر، عمدة فيلادلفيا. وعلى مدار سنين طويلة، فإن أولئك الساسة الذين قادنا خداعهم إلى الحرب في العراق، وتسبب سوء إدارتهم في ركود المهمة في أفغانستان، ظلوا يستخدمون عبارة "يريد أن يشمع الخيط ويهرب"، للتهجم على أي شخص يجرؤ على التشكيك في سياساتهم. لكن حقيقة الأمر أن المبالغ الخيالية التي أنفقت من أموال دافعي الضرائب ـ السابقين والحاليين والمستقبليين ـ لتمويل هاتين الحربين، هي التي جعلت الحكومة الفدرالية "تشمع الخيط وتهرب" من الأزمة الاقتصادية التي تواجهها الحكومات والمجتمعات المحلية في أميركا.

ولتكوين فكرة عما كان يمكن للأموال التي أنفقت في العراق وأفغانستان أن تفعله هنا في أميركا، يمكن لأي قارئ تجريب الأداة التفاعلية التي وضعتها مؤسسة مشروع الأولويات الوطنية في موقع خاص على الإنترنت، والتي تسمح لسكان أي بلدة أو مدينة أميركية بمعرفة كيف كان يمكن أن تزدهر بلدتهم لولا الحربين في العراق وأفغانستان.

وعلى المستوى الفدرالي، سينفق أكثر من 169 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب على العراق وأفغانستان هذه السنة. وبهذا المبلغ يمكن إنجاز أي من الأهداف التالية: حصول 86.8 مليون طفل من العوائل متدنية الدخل على رعاية صحية لسنة كاملة، حصول 21.7 مليون شخص من المحاربين القدامى على رعاية طبية لسنة، دفع رواتب 2.6 مليون رجل شرطة لمدة سنة، أو دفع رواتب 2.6 مليون معلم للمرحلة الابتدائية لسنة كاملة.

إذن، عندما تسمع عن كل تلك التخفيضات في ميزانيات الخدمات الاجتماعية ـ وعن "التضحية الجماعية" (التي يبدو أن معظم من يتحملها هم من الفقراء والطبقة الوسطى) ـ التي لا مفر منها "لأننا مفلسون"، عليك أن تتذكر الأرقام آنفة الذكر.

وفي ظل هذا الواقع الجديد، غدا صوت العسكر الممانع أعلى من قبل. فلقد قال وزير الدفاع (المستقيل) روبرت غيتس، في حديث مع "سي إن إن": يمكننا فعل أي شيء يطلبه الرئيس أوباما منا، لكن السؤال هو ما إذا كان من الحكمة فعل ذلك".

أنا من أشد المتحمسين للحكمة، ولكم سرني أن يسلط عليها غيتس الضوء باعتبارها عنصراً أساسياً في عملية صنع القرار، لكنني أتساءل أين كان تقديره لهذه السمة المنسية منذ بدء حرب أفغانستان قبل عشر سنوات؟ أين كانت الدعوة إلى الحكمة عندما قرر الرئيس السابق جورج بوش التركيز على العراق وترك المهمة في أفغانستان تزحف ببطء؟ لو دعا عدد أكبر من الأشخاص إلى توخي الحكمة في اتخاذ القرارات في ذلك الحين، لما كان هناك أصلاً حاجة للقرار الذي أعلنه أوباما مؤخرا.

 

Email