إن من أكثر الأمور التي تثير الانتباه فيما يتعلق بالشأن السوري والتطورات الجارية هناك هو الموقف الروسي الذي تحاول الإدارة الأميركية وبعض القوى الأوروبية تطويعه لصياغة موقف دولي قوي يستخدم ضد نظام الأسد في سوريا، لكن المحاولات يبدو انها لم تنجح إلى الآن في إقناع الحكومة الروسية لاتخاذ موقف متشددّ شبيه بذلك الموقف الذي اتخذه مجلس الأمن الدولي ضد النظام الليبي، ولا يبدو أن موقفاً روسياً داعماً لموقف دولي شبيه ضد قوات العقيد معمر القذافي يمكن أن يجد النور ضد النظام السياسي السوري. في الواقع يمكن قراءة هذا الموقف من خلال عدة اعتبارات تختلف في أهميتها ما بين اعتبارات أساسية وأخرى ثانوية إلا أنها جميعا تصب في خدمة المصلحة الوطنية الروسية، خاصة منذ حقبة الرئيس بوتين التي تحاول أن تستعيد فيها روسيا أدوارها التاريخية المهمة التي ورثتها عن الاتحاد السوفييتي.

أول هذه الاعتبارات يتمثل في رغبة روسيا المحافظة على حليف استراتيجي مهم لها في المنطقة لاسيما بعد سقوط حلفاء لها في المنطقة على يد الولايات المتحدة كأفغانستان والعراق واليوم ليبيا. الحديث المتداول حاليا في دوائر صنع القرار الخارجي في روسيا هو حول أهمية سوريا باعتبارها بوابة روسيا الرئيسية إلى استعادة أدوارها التاريخية في منطقة الشرق الأوسط بعد غياب دام 15 سنة، هذا ما ذهبت إلى تأكيده الصحافة الروسية بعد زيارة الأسد إلى روسيا في عام 2005.

ويندرج ضمن هذا الحلف الإستراتيجي أمور عديدة منها سوق السلاح الذي تعول عليه روسيا اليوم كثيراً خاصة بعد أن انتعشت صناعة الأسلحة فيها، فسوريا تعتبر أحد زبائن روسيا المهمين في هذا المجال وهذا ما تذهب لتأكيده الأرقام، فبين عامين 1994 و2000 اشترت سوريا سلاحاً روسياً بقيمة 500 مليون دولار، بالإضافة كذلك إلى صفقة المليار دولار التي تصب في خدمة تطوير سلاح الجو السوري بشكل خاص على الرغم من نفي القيادة الروسية إتمام هذه الصفقة. في المقابل قامت روسيا على إعادة جدولة الدين السوري الموروث من الحقبة السوفييتية.

ولا يمكن لموسكو كذلك أن تتغاضى عن أهمية الموانئ السورية والتي يأتي على رأسها ميناء طرطوس الذي يعتبر نقطة ارتكاز أساسية للأسطول الروسي في مياه البحر المتوسط فالحديث دائر اليوم بين الطرفين حول مسألة إعادة تأهيل القاعدة العسكرية الروسية في طرطوس خاصة بعد أن فقدت روسيا العديد من القواعد البحرية في دول أوروبا الشرقية مثل رومانيا وبلغاريا وذلك بعد انضمامها إلى حلف الأطلسي.

ثاني الاعتبارات هو أن موسكو لا تود أن تصبح ممارسة منح الحق للدول الكبرى للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى عرفاً دولياً بحيث تصبح كل حالة ينظر إليها الغرب على أن فيها انتهاكاً لسلامة المدنيين لابد أن تواجه بتدخل أممي للحد من مثل تلك الانتهاكات. ولعل روسيا تنظر إلى واقعها، حيث انها هي بنفسها لديها العديد من المشاكل الداخلية مع أقليات مختلفة موجودة في الأراضي الروسية وتعاملها الحكومة الروسية في بعض الفترات باستخدام القوة العسكرية معها لمنع حدوث انقسامات لسيادة الدولة الروسية. فاعتماد التدخل في الشؤون الداخلية للدول بحجة حماية المدنيين قد يعطي المجتمع الدولي فرصة للتدخل في شؤون روسيا في فترة من الفترات.

ثالث الاعتبارات مرتبط برغبة عدم تساهل موسكو مع المطالب الشعبية ضد الأنظمة السياسية الفاسدة خوفاً من أن يعطي ذلك ذريعة للروس كي يتظاهروا ضد الفساد وضد تراجع الحريات والديمقراطية في روسيا ذاتها. فالمعروف أن روسيا ورغم نجاحها في الانتقال من الحكم الشيوعي إلا أنها لم تنجح في ترسيخ الديمقراطية والحريات بالشكل الذي يتمناه الشعب الروسي حيث ظلت الحريات محدودة، وظلت سيطرة فئة معينة على الحكم هي السمة السائدة في روسيا، وظلت روسيا تقمع مساعي بعض الأقليات الإثنية الراغبة في الاستقلال. فليس من المستغرب أن نجد موسكو تقف ضد الثورات الشعبية التي اندلعت في جورجيا (ثورة الورود) وأوكرانيا (الثورة البرتقالية)، ولا تتعاطف كذلك مع ثورات الشرق الأوسط.

رابع الاعتبارات مرتبط بعدم الرغبة الروسية في الاستسلام بشكل سريع وتلقائي للمطالب الأميركية التي قد تضر بالمصالح السياسية والاقتصادية لروسيا. فهناك قضايا لروسيا مازالت عالقة في علاقتها مع الولايات المتحدة وبالتالي فإن موسكو تود الاحتفاظ بأوراق مساومة لها مع واشنطن وعدم التنازل عن جميع الأوراق التي في يدها. فهناك مسألة الدرع الصاروخية على سبيل المثال والذي ترفض موسكو المساعي الأميركية المتمثلة في نشر وحدات صاروخية في مناطق قريبة من الأراضي الروسية فيما تتمسك واشنطن بذلك، وهناك أيضا موضوع توسيع عضوية حلف الناتو ليضم دولا محاذية لروسيا وهو ما ترفضه موسكو في حين تسعى واشنطن إلى تحقيقه.

وهناك موضوع سجل حقوق الإنسان الروسي والضغط الأميركي نحو إبرازه للعلن من خلال انتقادها لممارسات موسكو المنتهكة لحقوق الإنسان، وبالتالي فإن التنازل عن ورقة مثل سوريا لصالح الولايات المتحدة لن يأتي من دون مقابل أميركي فيما يتعلق بقضايا عالقة بين البلدين.

وبالنظر إلى التاريخ التفاوضي بين البلدين نجد أن موسكو دائماً ما تقف موقف المتردد تجاه دعم مساعي واشنطن في تحركاتها تجاه مناطق مختلفة من العالم، فموسكو عادة ما تأخذ وقتها في تحديد موقفها، وعادة ما تتمسك برفض الدعم في البداية أو التردد عن الدعم حتى تتضح لها الأمور أو تفرض على واشنطن التحرك خارج الشرعية الدولية، أو تحصل على مكاسب معينة مقابل دعمها المباشر أو غير المباشر.

يتبين من خلال قراءة الاعتبارات السابق ذكرها تفسير الموقف الروسي الممانع لفرض ضغوطات على نظام الأسد، ولعل الكلمة التي قالها الرئيس ميدفيديف ونشرتها البيان قبل فترة تحت زاوية (قالوا) تفسير للموقف الروسي بكل تجلياته، حيث قال الرئيس: «نحن مهتمون بأن تتطور الأحداث في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا طبقاً لسيناريو واضح قابل للتنبؤ بالنسبة لنا، إذ إن خيوطاً كثيرة تربطنا بالعديد من دول المنطقة». فالدب الروسي يقف داعماً لكي لا يهتز عرين الأسد وتهتز معه هيبة وكبرياء روسيا.

كاتبة إماراتية