في تغطيتها للأحداث الجارية في اليمن، تكشف وسائل الإعلام مرة أخرى عن تحيزاتها وعن طبيعة عملها في هذه المرحلة. ففي الصور التي تصلنا عن الأحداث هناك، يبقى أكثر الصور العالقة في الذهن مرتبطة بالصراع وبالعنف، فغالبا ما نشاهد في المحطات التلفزيونية وعلى صفحات الجرائد والمجلات، إما متظاهرين أو رجالا يحملون السلاح على أكتافهم، بعضهم في شكل يشير للاستعداد لالتقاط صورة. وفي بعض الأحيان نرى بعض المآسي الناتجة عن الحرب في أوساط البشر العاديين، فهل هذه هي اليمن، أم أن عورات معظم أجهزة الإعلام العربية التابعة والعاجزة عن تشكيل خطابها الخاص والجميل، تتكشف الآن أمام الملأ، وإن كان البعض لا يجد حرجا في ذلك، حيث لم يعد التمييز لديهم واضحا بين ما هو الوضوح وما هو التعري؟!

إن الحديث عن الإعلام الحاجب للحقائق، يعود للسطح في كل مرة تظهر فيها مثل هذه الصور، حيث يبقى السؤال عن اليمن الحقيقي، عن الأرض التي صاغت الأساطير والحضور العربي، عن سيف بن ذي يزن، عن عبد الله البردوني، عن بلقيس التي مجدها القرآن بمدحها، عن أروى بنت أحمد، عن الشعر المتغلغل في الأجساد النحيلة، عن الأفكار التي دارت وتدور في رؤوس البشر، وفي أروقة الجامعات..

ترى لو أن بلقيس تعود للحياة اليوم، ماذا ستقول لنا عن الخراب الذي غزا أرضها وجعلها شديدة الهزال أمام الناظرين، بعد أن كانت محل الشمس والضياء والمديح؟ كيف لها أن ترى يمنها السعيد يصبح تعيسا للدرجة التي تجعل أبناءه يتوارون من طرقاته خجلا وحزنا، ويبكونه في ليال كانت قديما مطرزة بقصائد العزة والمحبة والغزل؟

ليس الإعلام العربي وحده من تتكشف عوراته في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العرب، بل تتكشف عورات صنعته، لتظهر لنا حجم الخراب الذي أحدثته أنظمة لم تر في الحكم غير غنيمة لا بد من اقتسام مكاسبها، لنرى كيف صاغت الأنظمة، في غالبية بلدان العرب، أنظمة هشة، كيف مزقت جسد الإنسان، كيف اقتلعت القيم النبيلة وغرست مكانها قيم الفساد والقمع والخراب!

إن الخراب الذي نلمسه في معظم أرضنا العربية، بعضه كأوبئة قاتلة تنهش في أجساد البشر، وبعضه كريح صرصر تقتلع ما يقف في طريقها، وآخر ما زال مخاتلا ينتظر "الوقت المناسب"! كل هذا الخراب، يكشف لنا كيف أننا قد صرنا هشين لدرجة قاسية، كيف أن الأنظمة العربية في معظمها، لم تسع لبناء نظم تساعد في استمرار الحياة، بل قوضت كل الشرايين التي كان من الممكن أن تمدها بها؟ كيف أن معظم قادة العرب لم يتبنوا نظرية الفاروق عمر بن الخطاب حين قال "لو أن بغلة كبت في أرض العراق لخشيت أن يحاسبني ربي عليها"، بل سعوا في توسيع الحفر التي كبا فيها الناس، وليس البغال وحدها، بل إنها اتسعت حتى صارت اليوم مكان دفنهم، مكفنين، ليس بأكفان الفخر والعزة، بل بأكفان الخزي والعار.

لقد ظن الكثير من القادة العرب أن استمرارهم وبقاءهم مشروط بعدد الرؤوس المنكسة في حضرتهم، مشروط بإشاعة قيم الفساد والذل، وبسرقة خيرات بلدانهم، بل بسرقة قوت شعوبهم، ولم يعرفوا أن كل هذه المظاهر دليل مرض يصيب بالموت كل من يعمل على تفشيه. وكيف لهم أن يعرفوا وهم لم يمتلكوا النفوس التي تميز بين البريق الحقيقي والبريق الزائف! لقد خدع القادة العرب الذين سعوا إلى خراب بلدانهم حتى أنفسهم، ويبدو أنهم قد كذبوا، كما يقول قائل، حتى صدقوا كذبهم، ثم جاء وقت الخراب فتكشفت كل العورات.

من جانب آخر، يبقى سؤال يظل يراود الخاطر، سؤال معقد بعض الشيء، لكنه يستحق التفكر فيه، ألا وهو السؤال الذي تقود إليه عبارة "كيفما تكونوا يول عليكم"، وهناك عند البيهقي عن كعب أنه قال "إن لكل زمان ملكا يبعثه الله على نحو قلوب أهله، فإذا أراد صلاحهم، بعث عليهم مصلحا، وإذا أراد هلاكهم بعث عليهم مترفيهم"، فما هو يا ترى حجم مشاركتنا في هذا الخراب الذي نراه في الكثير من أراضي العرب في هذه الأيام؟ وكيف لنا أن نختبر هذه العبارة في ظل مقولة أخرى تعرفها غالبيتنا، وهي تلك التي تقول "الناس على دين ملوكهم"، وتسند هذه العبارة بقصص عن أزمان كان ملوكها عند العرب مهتمين بالتعمير، فأصبح أهل بلدانهم ساعين في ذلك، وكانوا مهتمين بالعلم وبالقرآن وكان أهل بلدانهم أيضا مهتمين بذلك، وكان ملوكهم مشغولين بالنساء وبترف الحياة، فشغلوا بذلك..

 وكل هذه الحكايات واردة في كتب التاريخ والأدب العربية، فكيف لنا أن نتعامل مع كل هذا الجدل فنستدل مثلا على حجم مشاركتنا في ما يحدث، فلا نحمل تبعته للزعماء فقط؟ أو كيف لنا أن نعالج نفس الإنسان بحيث لا تكون في مجملها تابعة، أم، وهذه أيضا فرضية جدلها ليس بأضعف مما ورد، أن الخير والشر يبقيان في الكون ما بقيت فيه حياة، وأن حجم ونوع تعاملنا معهم هو الفيصل في الأمور كلها، وأن قبول هذه الحقيقة أمر ضروري في الإيمان؟

تبقى كل هذه الأمور معلقة في الذهن، لكن يبقى أيضا أننا نتحيز للخير وللسلام، والأهم من ذلك، نتحيز لرؤية جبين المرأة العربية وجبين الرجل العربي مرفوعين تحت شمس بلدانهم.