لم يتخيل عقل واع أن يتحول المشهد في الدول العربية إلى هذه الدموية المفرطة، التي تكاد تفقدنا الإيمان بأن الدم العربي أغلى من كل البضائع الأخرى، ولم يكن سهلا على العرب أنفسهم أن يتقبلوا فكرة قتل الأخ لأخيه مهما كان الخلاف، .
ورغم ذلك نجدهم على مقاعد الفرجة يتأملون مسرحية الموت بشكل يومي، ولم نر دعوة واحدة جادة ترفع لحقن هذه الدماء، ونكاد لا نرى في هذه المصيبة إلا شماتة الأعداء الذين استطاعوا أن يفرحوا بالمآتم التي تقام هنا وهناك. فالفكرة الأساسية من ثورة الشعوب، هي الثورة على الانسحاق العربي، مقابل قوة باطشة مستعمرة هي الكيان الإسرائيلي، ولكن وجدنا أن الاستقواء الذي أبدته الجيوش العربية على أبناء جلدتها، أكثر قوة وبطشا من عدوها المفترض!
وبذلك نكون أمام حالة من الانفصام الذي تسقط معه الصورة المختزلة في الوعي عن العدو، لتحل مكانها صورة جديدة تحمل ملامح تشبههم كثيرا. ولم يكذب الشاعر النواب حين قال «قتلتنا الردة.. أن الواحد منا يحمل في الداخل ضده».. فما أفظع هذه الردة وأمرها! فبعد أن كنا نتغنى بتاريخ نضالي سطره الأبطال بحروف من نور، من عمر المختار إلى عبد الكريم الخطابي إلى عز الدين القسام، سيعيد التاريخ كتابة هذه المرحلة الدقيقة من عمر الدول.
وسيتحدث طويلا عن خيبة هذه الجيوش في نضالها الجديد للقضاء على الشعوب من أجل عيون النظام، وهذا ما لن يستوعبه عقل، وسيتحول إلى وصمة عار في جبين الزمن.
المتابع لبعض الأحداث التي تقع في العالم، سيلمس الفارق في الشعور تجاه بعض الفئات الرافضة لنظام حكم ما.
والتي تعبر عنه في تكتلات حزبية معارضة، وبتداول صريح للسلطة قلما نجده في دول عربية تصف نفسها بالديمقراطية، بل إن الإحساس بالدونية الذي ترافق مع الثورات التي خرجت، لم يكن هو المحرك في أساس الاختلاف مع الأنظمة في العالم المتحضر، بل دوما تشغل بالهم كيفية إصلاح النظام الاقتصادي عبر استراتيجيات واضحة.
وزيادة معدل الإنتاجية، وتحقيق نسب جيدة في توظيف العاطلين، ولم يكن همهم الفساد السياسي أو الاقتصادي أو الطبقية، تلك التي دفعت الشعوب لإسقاط الدكتاتوريات العربية.
ورغم أن مطالبات الشعوب العربية تكاد تكون واحدة، إلا أن المشكلة في نجاح بعضها وإخفاق الآخر، هي تسييس الثورة نفسها.
فجميع الثورات في العالم، القديمة منها والحديثة والقادمة، أجمعت على مطالب بعينها تدور حول الفقر والعدالة الاجتماعية والحرية، ويمكن القول إنه رغم ما يفرق الدول العربية من سياسات، فسيجمعها هذا الثالوث؛ فلا عدالة ولا مساواة ولا حرية.
ورغم ذلك نجد أن هناك من لا يستوعب هذه المطالب البسيطة، بل يكاد يجزم أنها ترف فكري تحركه جماعة بعينها، فلا يوجد فقر ولا بطالة ولا امتهان لكرامة الإنسان.. وكأنهم يعيشون في كوكب آخر!
لذا يخرج هؤلاء بروح عالية لاغتيال لحظة الحرية في أسمى صورها، ويتحول الأخ وابن العم إلى أداة في يد النظام، وعجلة للقتل تدور في كل الاتجاهات، ويتحول القتلى إلى شهداء بحسب سلامة النية في هذا الجهاد الجديد من نوعه، لكن يبقى أن القدرة على استيعاب هذه الحقائق متفاوتة من عقلية إلى أخرى.
فالبعض يقول إن العربي ينطبق عليه المثل القائل «القط يحب خنّاقه»، والبعض يقول إن الشعوب التي تستمرئ الظلم والفقر تستحق أن تعيش في هذا الضلال، لأنها هي التي تسمح لكل الأقدام بالدوس على رؤوسهم بمنتهى الانصياع والاحترام.
من ناحية أخرى، نجد أن منظري وأصحاب النظريات التآمرية الذين بدأو باكرا في تفنيد الدعوات التي طالبت بضرورة التغيير، لم يكونوا بعيدين جدا عن جو الثورات، فهؤلاء قد أوهموا أنفسهم أن هناك من يحيك الدسائس من أجل إسقاط هذه الأنظمة الفريدة من نوعها.
ولعل أميركا تبقى الشماعة التي تعلق عليها الأنظمة فشلها، ورغم ذلك لم ينثني الثوار عن مواصلة مقاومتهم والخروج في مشاهد وحشود مؤثرة، في هذه الأجواء الصيفية القاتلة لمن لا يعرف حرارة صيف العرب.
وحتى اللحظة يخامرنا نفس الشعور بأننا أمام فيلم "أكشن" ليس إلا، فالمشاهد الدموية العنيفة أصعب من أن تصدق، ولم نر مثيلها إلا في المذابح التي شهدتها المنطقة من قبل، مثل مذبحة دير ياسين وصبرا وشاتيلا، ولم نر الدموع في عيون الأمهات الثكالى بهذه الغزارة، إلا إبان القصف الإسرائيلي للمدن العربية في فلسطين ولبنان .
ولكن اليوم باتت الأم الثكلى على امتداد الخارطة العربية، تصرخ بصوتها لإنقاذ ابنها من شقيقه، وليس من ابن عمه.. هكذا تحولنا من مودة ورحمة إلى ظلم وعدوان، واستطاع النظام أن يكون مصدر التشريعات والشرائع ويصبح هو المعتقد وهو كل شيء.
إن الصعوبة في تقدير عدد الضحايا الذين ماتوا من أجل الحرية والمطالبة بالعدالة، يتوقف على مدى قدرة هذا النظام على الصمود في وجه استيعاب الحقيقة، فلا يمكن تصديق أن هناك بطانة تستطيع أن تلعب بعقل هذا الرئيس أو غيره، وتصور له جنة الواقع بينما الجحيم على الأبواب.
فالتشدّق بالمفردات الرنانة التي تطالب الشعوب بمواصلة النضال وبمزيد من الوعي، هي التي قلبت لهم ظهر المِجَن، وسقطت كل المثل والأكاذيب، وأصبح فجأة "حاميها حراميها". فلماذا يستمر هؤلاء في خداع أنفسهم بعد أن سقطت الأقنعة؟ «فمن فمك أدينك»، وليسكت الجميع وليقل الشعب كلمته.