دلالات الفوز الثالث لحزب العدالة والتنمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحمل نتائج الانتخابات التشريعية التركية الأخيرة العديد من الدلالات، فتجديد الثقة بحزب «العدالة والتنمية»، والذي تمثل في حصوله على نسبة 51% من أصوات الناخبين لم تكن مطلقة حيث نقص عدد المقاعد التي حصل عليها في هذا البرلمان عن المقاعد التي حصل عليها في الانتخابات السابقة على الرغم من أن نسبة التأييد كانت حوالي 47%. كذلك فان الناخبين لم يمنحوا العدالة والتنمية النسبة التي تسمح له بتغيير الدستور عن طريق البرلمان ومن دون اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي. وأعاد الناخبون حزب «الحركة القومية» إلى البرلمان فيما يبدو وكأنهم يريدون أن يحدثوا توازنا مع حزب العدالة والتنمية، خاصة وان نسبة التأييد التي أعطاها الناخبون لحزب «الشعب الجمهوري» العلماني الاتاتوركي قد زادت في هذه الانتخابات عن السابقة، وان كانت اقل مما كان يتطلع «الشعب الجمهوري» إلى الحصول عليه.

لقد جدد الناخبون الثقة بالعدالة والتنمية، لكنهم لم يعطوا له تفويضا على بياض لكي يفعل ما يريد، خاصة وان برنامج الحزب تضمن تغيير الدستور وتحويل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وهم بالنتيجة التي انتهت إليها هذه الانتخابات ألزموا العدالة والتنمية بأمرين الأول أن يجري مشاورات مع القوى السياسية الممثلة في البرلمان حول التعديلات الدستورية أي مع «الشعب الجمهوري» و«الحركة القومية» والمستقلين ومعظمهم من الأكراد، والثاني أن يعرض الدستور المقترح على الناخبين في استفتاء شعبي.

وبالتالي فإن تجديد الثقة كان يتعلق بالسياسيات العامة ومن اجل تنفيذ «العدالة والتنمية « لبرنامجه الانتخابي الذي وعد الأتراك بأن يحول دولتهم إلى دولة عظمى والذي ركز على المستقبل البعيد، حتى انه تضمن خططا للتصدي لزلزال من المتوقع أن يصيب مدينة اسطنبول بعد ما يزيد على 10 سنوات، لكن الأتراك لم يريدوا أن يستفرد حزب واحد بتحديد شكل الدولة ونظام الحكم فيها في المستقبل، وأرادوا أن يكون ذلك عبر توافق وطني عام يشمل كل أطياف المجتمع السياسي والفكري.

ومن دلالات نتائج الانتخابات التركية أن عدد المقاعد التي حصل عليها الأكراد والذين ينتمي معظمهم إلى حزب المجتمع الديمقراطي الذي تم حظره لكنهم قدموا أنفسهم للناخبين كمستقلين واستطاع 36 منهم الحصول على مقاعد نيابية مقارنة بعشرين مقعدا في انتخابات عام 2007 وهذه النسبة تعد قياسية في الانتخابات التركية، وهو الأمر الذي دفع الأكراد إلى رفع سقف المطالب السياسية والثقافية لهم، حيث تضمنت المطالب هذه المرة وفقا لبعض الأصوات الكردية التركية النافذة الحكم الذاتي والتعلّم باللغة الكردية الأم، وإطلاق سراح زعيم «حزب العمال الكردستاني» المحظور عبد الله أوجلان والتفاوض معه بوصفه ممثلاً عن الأكراد، وإعلان عفو عام عن عناصر الحزب الذي كان قائده العسكري كان قد هدد باستئناف الهجمات في أعقاب الانتخابات.

ومن الأمور العصية على الفهم أن الناخبين الأتراك على الرغم من تجديدهم الثقة في حزب العدالة والتنمية إلا أن نتائج الانتخابات لم تخل من منغصات على الحزب، حيث استطاع ثلاثة من الذين اتُهموا بالانتماء إلى تنظيم «أرجينيكون» الانقلابي، الحصول على مقاعد برلمانية، ليبدأ جدل حول احتمال خروجهم من السجن وتمثيلهم نيابياً، الأمر الذي قد يؤثر في مجريات التحقيق في قضايا الانقلابات العسكرية، خاصة وان القانون التركي يسمح لهم بالتدخل والاطلاع على تفاصيل التحقيقات والاحتجاج على سيرها. وكان الحزب يتعامل مع قضية أو شبكة ارجينيكون باعتبارها مسألة حياة أو موت وكان يعطى لها أولوية قصوى، كما أنها تسببت في العديد من الأزمات بينه وبين المؤسسة القضائية التركية، فضلا عن توتر علاقاته مع قادة الجيش بسببها، وتسببت في نشوء رد فعل دولي ضد تركيا لان احد المتهمين في القضية صحافي، مما أدى إلى اعتبار تحويله إلى القضاء ثم الحكم عليه بمثابة انتهاك لحريات التعبير والصحافة.

وهذا النتائج تؤكد أن رسائل الناخب التركي كانت متعددة الاتجاهات ومحملة بالعديد من الرموز، لكن هناك دلالات أخرى ذات مغزى لابد من الإشارة إليها في مقدمتها أن الناخب التركي حسم نهائيا سؤال الهوية لصالح الهوية الشرق اوسطية ولم يعد مهتما بالالتحاق بالغرب، فالأحزاب التي تضع أولويتها تجاه الغرب وترى أن تركيا ذات هوية غربية لم تستطع أن تحتل موقعا في البرلمان الجديد، على العكس من ذلك فإن الأحزاب التي دخلت هي تلك التي ترى أن هوية تركيا شرق أوسطية، أو أن عليها أن تتزعم العالم التركي أي الدول المحيطة بها في منطقة آسيا الوسطي وبها سكان يتحدثون باللغة التركية، وهذا هو موقف حزب «الحركة القومية». وهناك من يرى أن تصريح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في أعقاب نجاح حزبه بان فوز حزبه يعد نصراً للشرق الأوسط وشعوبه، دليل على انه سوف يركز في المرحلة المقبلة على السياسات الإقليمية الشرق اوسطية كبديل عن التركيز على حلم أن تصبح تركيا عضوا في الاتحاد الأوروبي.

والدلالة الكبرى من نتائج الانتخابات التركية الأخيرة تتمثل في أنها أكدت أن تركيا أحدثت قطيعة مع السياسات التي كانت تتبناها منذ أن أطاح مصطفى كمال أتاتورك بآخر خليفة عثماني، وأنها بصدد تأسيس جمهورية جديدة تتقاطع مع سابقتها.

Email