لم يعد شبلا هذا الفتى، بل جاء إلى أمسيته الأخيرة في مدينة العين ضرغاما ملأ عرينه، وأسدا لحضوره تخفض السباع رقابها، وتفسح المكان لسطوته الجلية، وجاء فارسا ممتطيا صهوة الشعر بجسارة، جسارة لا يمتلكها إلا من يمتطي صهوة خيله بوثوق لا يعرفه إلا الفارس الحق. وبجانب الحضور المميز للفارس، كان الشعر أيضا في تلك الأمسية وفي تلك الملحمة جلي الحضور، مستعيدا المكانة التي عرفها والتي يستحقها في نفوس العرب، وكان حمدان معترفا بمكانة الشعر حين قال:

معزبنا الشعر وضيوفه احنا والسنين شهود

هو اللي سجل التاريخ في صفحات ديوانه

حقا، لقد كان حمدان معترفا للشعر بما يستحقه من مكانة في هذا البيت، فالشعر عند العرب يكتبهم ولا يكتبونه، والشعر مرآتهم، صورة مجدهم، وصورة انكساراتهم أيضا. والشعر في ذلك المساء، في تلك البقعة من الصحراء العربية التي خط عليها زايد بالأخضر، جاء ليؤكد مكانته مرة أخرى في نفوس العرب، حيث صار مرآة تعكس ما تصبو إليه تلك النفوس، في هذه المرحلة بالذات، من رغبة في السمو، وفي الخروج من لحظات الانكسار إلى لحظات العزة والشموخ، حيث قال فزاع في هذا المعنى:

وابا ارفع طود واكسر طود وارفع طود واكسر طود

وابا اراهن زماني واستفزه واكسب رهانه

ولم يأت حمدان في تلك الليلة وحيدا، مجردا من خيالات من سبقوه في دروب المجد، بل جاء وفيا، مخلصا للخطى التي سبقته ورسمت على التراب دروب عزتها بالأخضر المروي من دفق القلوب، القلوب التي أحبته وأخلصت لشمسه وبحره. جاء حمدان مستلا من التاريخ صور من خطوا على هذا التراب قصيد محبتهم، وراسما بوضوح علامات زايد التي رسمها في القلوب قبل الدفاتر، متحيزا لما عنته من معان، ومدركا لما فيها من حكم. وفي هذا يقول:

إذا هبوا فرادى للوطن ما جيت له مفرود

أنا لدار المكارم سقت خياله وهجانه.

ويقول عن زايد:

على درب الزعيم مؤسس الوحده ابونا العود

حكيم العُرب راس المجد بحر الجود ربانه.

ثم يلقي الضوء على خصال زايد فيقول:

على كل البيارق زايد اللي بيرقه في زود

وعلى أهل الجود له زود وعلى اهل الزود تيجانه.

ولأن ما عناه زايد ارتسم بطابع المحبة في قلوب العرب، فإن عبارة وفاء وشى بها قول فزاع في تلك الليلة، قالت:

لو ان للنيل دربٍ من مصر لابوظبي ممدود

سقى قبره وفاضت لين دار العين غدرانه.

من تلك المعاني التي ارتسمت في نفس زايد ورسمها، ليس فقط على خارطة العرب، بل على مساحات أخرى أبعد منها، جر حمدان مداد قلمه وغمسه في النفوس التي تعشق تلك الشيم وتعرف قيمتها، ليكتبها مرة أخرى شهادة من نور، وغيمة مزن تشتاق وابلها هضاب العرب ووديانها.

إن المعاني التي تغنى بها حمدان في تلك الليلة، هي نفسها التي تغنيها نساء العرب لأبناء تشتهي أن يشُقّوا الدرب رافعي رؤوسهم ومعانقين ساحات الحضور البشري وأكتاف الغيم، غير متنازلين عن أحلامهم، وغير متضعضعين. ومن هنا ارتفعت هامات الشباب بتلك الكلمات وارتوت نفوسهم، فهم، وإن بدوا أحيانا وكأنهم في لهو عن الحضور، وعن المجد، ما زالوا يعشقون هامات القمم ويحبون نشيد أمهاتهم، ما زالوا يعرفون قيمة ما رسمه زايد، ومحبو معاني زايد من علامات على الدروب، بقيت لهم أنجما وطيبا يتضوع به حضورهم أينما حلوا، وما زالوا يحبون أوطانهم ويكحلون عيونهم من ثراها، أو كما قال حمدان:

وطنا عرضنا اللي ما نطاوع به كلام ندود

ومن يرخص بأرضه يرخص بعرضه وعربانه

مدار الشمس يتبع دربنا ولنا قبور جدود

إذا مروا على التاريخ فز وشنف آذانه.

لقد كان لأمسية حمدان في تلك الليلة بهاء حضور الشعر الجميل، الشعر الذي يكشف للنفوس عن أجمل ما فيها، وكان لأدائه ألق خاص، وحضور سجل له خيطا من ضياء سيبقى أبدا راسما حضوره في فضاء هذه الأرض التي أحبها، وعبر لها عن محبته في قصيده، فأحنت تلك الأرض قامتها للفتى الذي تشكل من طينها وعجن من مائها، وحين لفحته نار الشعر صار لها وبها شمسا لا يلفها حجاب.

فعلى مثل كلماتك التي قلتها في تلك الأمسية في مدينة العين يا فزاع، تتغذى القلوب المجبولة على محبة أوطانها، ولمثلك تنحني هامة المجد وصهوات جياد العزة. ولمثل ذلك الشعر تشتاق النفوس كي يمطرها بهاء ومجدا، فدمت لهذه الأرض، ودام لها من سقى هامتك من مياهه، ولك أقول:

سرى الليل وسرى بي من بحر شعرك نظم مفنود

وبرق لاح من نجمك يواعدني بحيا وازهار تيجانه