الغاز الروسي وأزمة الطاقة النووية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يدور على الساحة الدولية جدل كبير حول مستقبل الطاقة النووية بعد حادث محطة فوكوشيما اليابانية على أثر الزلازل والفيضانات المائية، حيث يتوقع الكثيرون أن يكون لحادث فوكوشيما تأثير كبير على أسواق الطاقة النووية العالمية، خاصة بعد أن ثبت إضراره الجسيم بالبيئة المحيطة وتزايد نسب التلوث الإشعاعي أكثر مما يجب أو يحتمل، وعلى أثر هذا الحادث يتوقع البعض أن تعدل الكثير من الدول عن مشاريع بناء محطات نووية والاستعاضة عنها بمصادر أخرى للطاقة.

ولكن البعض يرى أن هذا أمر غير واقعي لأن في حالة اليابان ليست المشكلة في المحطة النووية نفسها بل في قوى الطبيعة من زلازل وفياضين، وبالتالي فالأمر نسبي ويختلف لدى الدول حسب نسبة تعرضها لهذه الكوارث الطبيعية، ولكن هذا لا يخفف من روع الشعوب وفزعها من هول الكارثة، وكانت الساحة الأوروبية صاحبة رد الفعل القوي، حيث شارك أكثر من ربع مليون مواطن ألماني في مظاهرات جرت في برلين وهامبورغ وكولونيا وميونيخ للمطالبة بالتوقف عن الاعتماد على المفاعلات النووية في الحصول على الطاقة. وجرت المظاهرات تحت شعار «فوكوشيما تحذر.

 أغلقوا جميع المفاعلات النووية فوراً»، وعكست هذه المظاهرات رسالة سياسية هامة للمستشارة أنجيلا ميركل وحزبها المسيحي الديمقراطي قبل وقت قليل من انتخابات محلية في ولايتي بادنغورتمبرغ وراينلاند فالز، ومثلت مظاهرة برلين الأكبر في إطار المعارضة الشعبية للطاقة النووية في ألمانيا، وشارك فيها 120 ألف شخص تقدمهم وزير الخارجية السابق فرانك فالتر شتاينماير، وقيادات أحزاب الاشتراكي الديمقراطي والخضر واليسار المعارضة.

ودعت إلى هذه المظاهرة نقابات عمالية واتحادات للبيئة وحركات سلام ومنظمات مناهضة للعولمة وكنائس، وسار المتظاهرون قرب مقار البرلمان ودائرة المستشارية والوزارات، ورفعوا لافتات تحذر من خطورة استمرار عمل المفاعلات النووية في ألمانيا بعد الأضرار الخطيرة الناشئة عن كارثة مفاعل فوكوشيما في اليابان. وطالب المتظاهرون بإغلاق كافة المفاعلات النووية بألمانيا فورا إن أمكن، والعودة لاستعمال مصادر للطاقة البديلة والمتجددة، والادخار في استخدام الطاقة الكهربائية، واستحداث برامج لتخزينها. واعتبر رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي المعارض زاغمار غابرييل أن المشاركة الواسعة لكافة فئات المجتمع تعكس رفضا شعبيا قويا للطاقة النووية، وطالب بإغلاق المفاعلات النووية القديمة في ألمانيا، وتحديث المفاعلات متوسطة العمر وفقا لمعايير سلامة مرتفعة تمهيدا لإغلاقها واحدة تلو الأخرى نهائيا.

وقال ميشيل زومر رئيس اتحاد نقابات العمال الألمانية أن كارثة فوكوشيما أظهرت أن الاستخدام السلمي الآمن للطاقة النووية خرافة، ودعا حكومة ميركل إلى وضع خطة عمل تهدف لإغلاق المفاعلات النووية في البلاد بشكل منظم وسريع ونهائي. وقد دفعت هذه التظاهرات الحكومة الألمانية إلى إغلاق أقدم سبعة مفاعلات نووية ثلاثة أشهر لحين التأكد من إجراءات السلامة الأمنية فيها. وشكلت المستشارة الألمانية لجنة لدراسة مستقبل المفاعلات النووية على ضوء الأزمة النووية في اليابان. رغم هذا ظهر تيار معارض يتزعمه المستشار الألماني السابق هيلموت كول يحذر من الاستغناء عن الطاقة النووية وتأثيره على الصناعة والاقتصاد الألماني، وأيضا تأثيره على أسواق الطاقة الأخرى من النفط والغاز والذي سيؤدي لارتفاع الأسعار فيها.

التصعيد الدائر في ألمانيا حول قضية الطاقة النووية من المتوقع أن يمتد إلى دول أخرى في القارة الأوروبية، حيث تنشط منظمات وجماعات حماية البيئة وأحزاب الخضر التي لديها الكفاءة لترويع الناس وتخويفهم من محطات الطاقة النووية، وهناك دول كبيرة في سوق التكنولوجيا النووية مثل الولايات المتحدة وروسيا تخشى تراجع هذه السوق أو إغلاقها وتسعى للتخفيف من حدة المخاوف من الطاقة النووية، وإن كانت روسيا أكثر تضررا من غيرها نظراً لاعتمادها على صناعة التكنولوجيا النووية وتصديرها للدول الأخرى بشكل كبير، كما أنها أنفقت الكثير في الأعوام القليلة الماضية على تطوير هذه الصناعة وتوفير أكبر ضمانات أمنية للمحطات النووية، ولدى روسيا تعاقدات على بناء محطات نووية في أكثر من أربعين دولة في العالم، وتخشى تراجع هذه الدول عن هذه التعاقدات تحت ضغوط شعبية مثلما حدث في ألمانيا.

من جهة أخرى يرى البعض أن روسيا ستستفيد كثيرا من تراجع الصناعة النووية في أوروبا، حيث سيسهم هذا في زيادة إقبال الأوروبيين على مصادر الطاقة الأخرى، وخاصة الغاز الطبيعي الذي تحتكر روسيا وحدها منه أكثر من ربع الإنتاج العالمي وتستورد منها أوروبا 60 في المائة من حاجتها منه، ويتوقع الخبراء أن تخلي أوروبا عن الطاقة النووية سيسهم في زيادة حصة شركة "غازبروم" الروسية في سوق الوقود الأوروبية إلى الثلث، وأن القرار الألماني سيزيد من صادرات الغاز الروسي إليها فقط بنحو 20 مليار متر مكعب، كما يتوقع الخبراء نمو الطلب على الغاز في أوروبا لدى تخليها عن الطاقة النووية من 520 مليار متر مكعب سنويا حاليا إلى 750 مليار متر مكعب، ما سيزيد من حدة المنافسة في السوق الأوروبية بين «غازبروم» وقطر والنرويج ودول شمال إفريقيا. وهذا يعني أن ما يحتمل أن تخسره روسيا في سوق الطاقة النووية سوف تعوضه كثيرا في أسواق الطاقة الأخرى.

 

خبيرة الطاقة الروسية

Email