ركز الكثيرون ممن تحدثوا عن آثار الزلزال الذي ضرب اليابان بشدة وخلف فيها الكثير من الدمار، على الأخلاق التي مارسها الناس هناك في ظل تلك الظروف. فلقد ذكرت الحكايات التي تناقلتها الأخبار، وبعضها كان مصورا، الكيفية التي تعامل بها الشعب الياباني في تلك الظروف القاسية، وكيف أن الناس كان سلوكهم مطبوعاً بالتعاون والصبر والجلد. لم تكن هناك روايات عن سرقة المحال التجارية، ولا استخدام السلاح وتهديد البشر من أجل سرقتهم، بل إن الناس كانوا يقتصدون، كما شاهدنا وسمعنا، حتى في شراء الحاجات المتصلة بعيشتهم، كالطعام على سبيل المثال، حتى لا يحرموا غيرهم من الحصول على حاجاتهم، وكان هناك انضباط في الشارع ومحافظة على الأمن العام.

ولقد فسر بعض المختصين في الدراسات الإنسانية، تلك الظواهر في محاولة لتحليلها، بأن السلوك الياباني كان يعكس بشكل أساسي أمورا كثيرة، من بينها القيم الثقافية المنغرسة عبر التاريخ في الشعب الياباني، وسيادة القانون، واحترام وتعزيز قيم الصدق. في المقابل، وفي الطرف الآخر من الكرة الأرضية، شاهدنا العكس. ففي ظروف شبيهة بتلك التي حدثت في اليابان، شاهدنا في الولايات المتحدة مثلا، مظاهر التعدي على ممتلكات الغير، السرقة، واستخدام السلاح لدرجة القتل، وأشكالا أخرى من مظاهر العنف والمظاهر الدالة على قيم ليست بمثل تلك القيم التي تحدث عنها من تحدثوا عن اليابان. وهنا أريد أن نتوقف قليلاً ونسأل أنفسنا نحن، في هذا الجزء من أرض العرب، عن الدروس التي يمكن استخلاصها والاستفادة منها في هاتين التجربتين.

أولا؛ كان يجب، في نظري، أن تكون هناك جهة رسمية بحثية، وقادرة على اتخاذ القرار، يناط بها أن تقدم لنا خلاصة هاتين التجربتين. ليس لأننا نتوقع أن تضرب الزلازل منطقتنا، وإن كان هذا من الأمور التي يجب أن نضعها في حسابنا، ولكن لأننا كمجتمع نمر بمتغيرات كثيرة، وكأمة نمر أيضاً بزلازل لا يعلم إلا الله وحده ما الذي يمكن أن تخلفه من دمار على الأرض العربية. ومربط الفرس هنا فيما يجب أن نهتم به هو القيم، إذ كما استخلصنا من التجربتين اللتين ذكرتهما، أنه، وفي حالة الكوارث، تتجلى القيم التي تنبني عليها المجتمعات. ونحن، وإن كنا لا نزال نتلمس الكثير من القيم الثقافية والأخلاقية الإيجابية في الكثير من أبناء شعبنا، إلا أن هناك مؤشرات يجب أن نتوقف عندها، أو بالأحرى يتوقف عندها صناع القرار، ومن في أيديهم مصير المجتمع بشكل عام، حتى لا تشكل في يوم من الأيام ظواهر يصعب التحكم فيها، حين تستشري بشكل كبير.

إن وجود مراكز بحثية حقيقية تقوم على الدراسات المجتمعية العميقة، ولديها باحثون مواطنون (وأقول مواطنين، ليس من باب التحيز العرقي، ولكن العاملين في مجال الدراسات الإنسانية، وفي كل دول العالم، يعرفون أن الدراسات الإنسانية، في أي مجتمع، لا يستطيع القيام بها شخص من الخارج، وهناك جدل أخلاقي وفلسفي كبير حول هذه النقطة في الأدبيات البحثية، لمن لا يعرف هذه الحقيقة). ووجود هذه المراكز هو مطلب ضروري وملح في هذه المرحلة تحديداً، إذ لا يمكن أن نضع خططا مجتمعية، سواء أكانت ثقافية، أو صحية، أو اقتصادية، دون أن تكون لنا مرجعيات معرفية حقيقية تقوم عليها تلك الخطط.

ثانيا؛ هناك مؤشرات، وعلى عدة أصعدة، تضعنا في أرضية قلقة حين التفكر فيها، ونرى أن دراستها ومعالجتها اليوم أمر ملح، إن كنا لا نريد أن نتعرض لمشكلات أكبر في المستقبل. ومن بين هذه المؤشرات، على سبيل المثال، الحديث عن السلاح الأبيض في المدارس وبين بعض الشباب. وسواء أكان هذا الحديث حقيقيا، أم أنه مبالغ فيه من طرف وسائل الإعلام، إلا أن كلتا المسألتين بحاجة لدراسة متعمقة. فحين يكون هناك مظهر من مظاهر العنف في المجتمع، أيا كان حجمه، فهو دليل على أن هناك خللاً ما تجب دراسته وإيجاد حلول حقيقية له. وهنا أريد التأكيد على أن تعزيز الضبط الأمني لا يكفي وحده لمعالجة مثل هذه المشاكل، وإلا لكانت الدولة البوليسية الكبرى، وأنتم تعرفونها، في مأمن من المشكلات. وإن كان الإعلام هو الجهة المضخمة لمثل هذه الأمور.

فهنا يجب علينا أن ندرس أيضاً الدور الذي يقوم به الإعلام في طرح المشاكل أو معالجتها. إن الكثير من الدراسات الإعلامية، والتي بالتأكيد لا يطلع عليها الكثير من العاملين في مجال الإعلام، تظهر أن نشر الجرائم، وبطرق معينة، ربما يكون وسيلة من وسائل انتشارها، وليس من وسائل معالجتها. أيضا، هناك الكثير من الدراسات التي تحذر من المشاهدة الكبيرة، من قبل الصغار والشباب، لأفلام وبرامج العنف، وكيف أن هذه البرامج والأفلام لديها القدرة على تعزيز مثل هذه النزعات في الصغار والشباب، وخاصة في ظل ظروف تكون فيها الأسر متخلخلة، أو لا تقوم بدور كبير في الرعاية والاهتمام بأطفالها. وهنا نتساءل، إن كانت المحطات التجارية تبرر عرض مثل هذه الأفلام والبرامج بدوافع الربح فقط، وإن كانوا أيضاً غير أبرياء من محاولة نشر تلك القيم، فما هو مبرر المحطات الحكومية، والتي يفترض أنها تسعى للمحافظة على أمن المجتمع واستقراره وتعزيز قيمه الإيجابية، في أن تكون ناقلة لقيم قد تسهم في زعزعة أمن المجتمع؟!

لعل المثل الذي أوردته ليس أسطع مثل على ما نمر به من تحولات، إنما أردت أن أركز على موضوعين هامين؛ الأول أهمية التعلم، أي أن نتجه إلى القراءة المتعمقة حين نتفكر في الظواهر، وهنا تكمن أهمية وجود المراكز البحثية التي تعتني بشؤون المجتمع، وتحاول معالجة إشكالياته والبحث عن سبل أمنه واستقراره الحقيقي. والأمر الثاني، أن المنظومة القيمية هي الركيزة الحقيقية للمجتمعات. وهنا، إن أردنا أن ننظر في تجربة قريبة، فلننظر إلى بعض مظاهر الانفلات الأمني التي تحدث في مصر هذه الأيام، والضرر الذي يصيب مصر الآن، يعرف المدققون فيه أنه يقع بسبب نظام لم يعتن بتعزيز قيم الأخلاق العالية والإنسانية في شعبه، بقدر ما عزز قيم الفهلوة والبلطجة والاحتيال، ووضع المصالح الخاصة فوق المصلحة العامة. واليوم، حتى ذلك النظام نفسه، يذوق مرّ ما صنعت يداه، لكن من يعتبر؟